محطات: من عبودية "كلاي" لحرية "محمد"

المعتصم البوسعيدي

عن أي شخص أتحدث هنا، هل عن الرجل الذي رفض التجنيد الذي كان سيجبره على المشاركة في الحرب "الفيتنامية" متعللاً ـ كما قال ـ بأوامر الإسلام التي تنهى عن الحرب طالما تتنافى مع تعاليمه؟! أم تراني أتحدث عن "رياضي القرن العشرين" الذي آمن بقدراته وهو يردد دائمًا: " أنا الافضل .. كنت اقولها حتى قبل ان أعلم إني كذلك".

ولد "كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور" في 17 يناير 1942 بمدينة لويفيل بولاية كنتاكي لأسرة فقيرة كابدت الظلم والاستبداد، قبل أن يصبح بطلاً رياضي ذا صيت وشهرة، اعتنق الإسلام في السن 23 عامًا واستبدل أسمه بـ "محمد علي" دون الاسم الأخير "كلاي" لكونه يرمز للعبودية ويعني "الطين" إلا أن هذا الاسم ظل ملاصقًا له على الدوام، وفي قصة إسلامه يُروى تأثره بشخصية "إلياجا محمد" زعيم منظمة " أمة الإسلام" الذي تعرف عليه بواسطة صديقة "مالكوم إكس" حيث حضر دروسه منذ مطلع الستينيات في تسعينيات القرن المنصرم، وقد اختلف "كلاي" ـ بعدها ـ مع توجهات المنظمة وخرج عنها، لكنه استمر في أعماله الخيرية والدعوية ونشر صورة الإسلام التي لا يعرفها الغرب، ولعلّ هذا الأمر يجعلنا نستحضر به عالمنا الإسلامي اليوم وظهور "اللا إسلاميين" من بين ظهرانينا وتوغلهم في مجتمعنا، والأدهى أنّهم استطاعوا أن يصنعوا "الإرهاب" في "علبة" فاخرة مغرية دون النظر لمحتواها الزائف، وللأسف ازدهرت صناعتهم لوجود تربة خصبة تغذت بالتخلف الفكري والتراجع العلمي والتعصب الطائفي والمذهبي والقبلي فضاعت البوصلة وحاد النهج عن طريقه السوي، وكم صرنا نحبذ نظريات "المؤامرة" ونعشق التغني "بقضيتنا الفلسطينية الكبرى" التي هي حقًا قضيتنا، ولكن الحل للوصول إليها ـ كما أعتقد ـ تكمن في قضايانا الصغيرة المتعلقة بالنفس التي تتخاذل عن الارتقاء بذواتها فكريًا وعلميًا وسلوكيًا "فمن يخسر قضاياه الصغيرة يخسر كل قضاياه".

رياضيًا بدأ محمد علي قصته مع الملاكمة من حادثة سرقة دراجته وذهابه للشرطة مشتكيًا ومهددًا بضرب السارق إن سقط في قبضته، فنصحه الشرطي "جو مارتن" أن يتعلم الملاكمة ليدافع عن نفسه، بل إنه كان وراء تدريبه لأول مرة، وقد اشتهر "كلاي" بأسلوبه الراقص على الحلبة فهو كما يحدث جمهور: "سأحوم مثل فراشة وألسع مثل النحلة" والأرقام تتحدث عنه بذهبية أولمبية في روما عام 1960 وبمسيرة ضمت 61 مباراة منها 56 انتصارًا (37 بالضربة القاضية) و5 خسارات فقط، وقد فاز ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات في1964 و1974 و1978، وهو بالمناسبة صاحب أسرع لكمة في العالم حين وصلت سرعتها 900 كلم في الساعة، وفي حياته المهنية سُحب منه لقب 1967 في أيام عزه بالملاكمة لرفضه الانخراط بالخدمة العسكرية الأمريكية إبّان حرب فيتنام ـ كمت ذكرنا ـ وحُكم عليه آنذاك بخمس سنوات سجن أُسقطت عنه بعد ذلك، ليعود للملاكمة عام 1970 في مباراة وصفت بأنّها (مباراة القرن) ضد جو فريزر، وكانت من 3 مباريات متفرقة فاز محمد علي باثنتين منها، كما أن هناك مباراة أخرى سميت بمواجهة "الغابة" لإقامتها في غابة زائير عام 1974 حيث لم يتوقع فيها أحد فوز محمد علي لقوة منافسه وشراسته وهو "جو فورمان" وقد صرح قبل المباراة مداعبًا أنه تدرب مع "تمساح" كي يفوز وقد فاز بالفعل في مباراة صنفت كسابع أفضل لحظة رياضية في التاريخ، هذا الرصيد الهائل لم يعني لمحمد علي أنّ الملاكمة لعبة يضرب فيها منافسيه أو يضربونه على العكس تمامًا فهو القائل "الحياة مقامرة ربما ستتأذى وتنجرح ولكن الناس أيضًا ممكن أن يموتوا في تحطم طائرة، يفقدوا أيديهم وأرجلهم في حادث سيارة، الناس تموت كل يوم ونفس الشيء يحصل للملاكمين البعض يموت والبعض يتعرض للأذى والبعض يمضي في طريقه، فقط لا تفكر أنّه ربما سيحصل لك هذا وأمضِ في تحقيق هدفك" نعم فهو أراد أن يكون بطلاً لنفسه وللناس التي تحبه وقد أصبح كذلك حتى بعد اعتزاله في العام 1981 عن عمر 39 عامًا.

إن ما يهم في حياة "كلاي" الشخصية ـ المتناقضة نسبيًا ـ هو زواجه أربع مرات، وقد أنهى زواجه الأول بسبب رفض زوجته آداب الإسلام الخاصة بملابس المرأة، وهذا ما يُعبر عن شخصيته وقناعاته التي لا يحيد عنها في بعض المواقف، وقد كان له موقف أعظم من ذلك في هوليوود حيث هناك شارع مشهور جدا اسمه "المشاهير" يضعون فيه نجمة على الشارع باسم كل مشاهيرهم تخليدًا لإنجازاتهم وعندما عرض الأمر على محمد علي رفض رفضًا قاطعًا نظرًا لأن اسمه يحمل اسم نبي الله وأفضل خلقه أجمعين، ولحبهم له ولنجاحاته قرروا وضع النجمة التي باسمه على حائط في الشارع كاستثناء عن باقي المشاهير، وبهذا نفهم معنى تكريم الأبطال لديهم، فلا يمنع اختلافهم معه في الآراء والتوجهات من تبجيله وتقدير مكانته فهو وإن كان ليس على ديانتهم أو لونهم أو غيرها من الاختلافات يبقى هو محمد علي الإنسان والبطل الذي تمكن من نثر الفرح في قلوبهم ورفع علم الوطن وتشريفه في أكبر المحافل الدولية، وكلاي هو ذلك المكافح الذي لخص معاني البطولة بالقول "الابطال لا يُصنعون في صالات التدريب، الابطال يُصنعون من أشياء عميقة في داخلهم هي الإرادة والحلم والرؤية" ما أروع ما قال وما أعظمها من إرادة جسدها على أرض الواقع لا على الحبر والأوراق.

لقد أصبحت احدى بنات محمد علي وهي "ليلى" ملاكمة محترفة على الرغم من مرض أبيها بالشلل الرعاش الذي إن لم تكن الملاكمة سببا مباشرًا له فلعها تبقى سببا وعاملاً مهما في وضعه الصحي الذي بات مصدرًا للإشاعة بين فترة وأخرى حول وفاته، لم يقهره المرض بل زاده صبرًا وتحمل وهو الذي يحب مساعدة الآخرين والعمل على خدمة المجتمع ولديه فلسفة رائعة "خدمتك للآخرين هو الإيجار الذي تدفعه مقابل سكنك في الدنيا" وطوال مسيرته الحافلة التي بدأت من "كلاي" العبودية إلى حرية "محمد" عاش وهو يردد: "في حياتي، في نجاحاتي، وفي كل انتصاراتي أنا مدين إلى الله".

تعليق عبر الفيس بوك