مذهبنا هو عُمان

صالح البلوشي

أعترف للقارئ الكريم أنني لم أتفاجأ كثيرًا بالهجوم الانتحاري الذي استهدف المصلين بجامع الإمام الصادق بالكويت، يوم الجمعة الماضي وأودى بحياة العشرات وجرح المئات من الأبرياء؛ لعدة أسباب منها: حالة الاحتقان الطائفي الذي تعيشه المنطقة بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وخاصة بعد تفجّر أحداث العنف في سورية عام 2011، واحتلال تنظيم " الدولة الإسلامية" الإرهابي مدينة الموصل وبعض المدن في العراق، ثم إعلانه قيام الخلافة الإسلامية وتهديده بنقل الحرب إلى دول الخليج -خاصة السعودية والكويت-، مما أسهم في بروز خطابات طائفية عنيفة في بعض دول الخليج تزعمها شخصيات دعوية وحزبية وسياسية سنية وشيعية. والسبب الثاني: افتقار دول المنطقة إلى خطة استراتيجية؛ لمواجهة التطرف الديني والتنظيمات الإرهابية وتفكيك منظومتها المعرفية، وافتقارها لسياسة إعلامية؛ تكشف وتعرّي أصول الخطابات الطائفية وتحذّر المواطنين منها، فما تزال ردود الأفعال على جرائم التطرف الديني، مثل: تفجير المساجد وغيرها، تقتصر على إصدار بيانات التنديد والاستنكار وزيارات المجاملة المذهبية فقط، وبعد انتهاء أيام العزاء الثلاثة ينتهي كل شيء، ويعود خطاب التحريض والعنف من جديد.

وفي خضم هذه الأجواء الساخنة التي تنذر بحالة طائفية شديدة الاحتقان في المنطقة؛ من المفترض أن تكون لنا في السلطنة - تحديدا- رؤية استراتيجيّة واضحة للحفاظ على وحدتنا الوطنية، وأن تكون هناك خطوات عملية لنشر فكر التنوير في المجتمع الذي يتمثل في التسامح والتعددية وحق الآخر في الاختلاف، من أجل الخروج من هذا الانغلاق الطائفي الذي يهدد دول المنطقة دون استثناء، والتأكيد على أنّ المذاهب الإسلامية ما هي إلا مدارس فكرية واجتهادات بشرية لفهم الإسلام، وليس الإسلام نفسه. ومن يقرأ التاريخ العماني يجد أنّ السلطنة تملك تاريخًا وإرثًا ثقافيًا كبيرًا في التعايش المذهبي بين مكوناتها الدينية المختلفة، ولذلك لا يجد المتابع حالة نزاع أو قتل طائفية واحدة في التاريخ العماني القديم والحديث، ولو حدثت لذكرها المؤرخون العمانيون الذين كانوا لا يتركون شاردة ولا واردة إلا ذكروها، كما لم يذكر ذلك أيضًا الرحالة الغربيون الذي مرّوا على عمان منذ القرن السابع عشر وكتبوا عن الحياة الاجتماعية والسياسية في عمان، مما يؤكد أن عمان كانت - وما تزال - بعيدة عن مناطق النزاع الطائفي، ولكن الظروف الإقليمية والدولية تغيّرت الآن، وأصبح الإرهاب الأعمى يضرب في كل مكان، تارة باسم الجهاد والدين، وأخرى باسم محاربة المارقين والمرتدين، ولذلك فإن حماية الوحدة الوطنية أصبحت مسؤولية الجميع وليس الحكومة والجهات المختصة فقط. فكما أن للنهضة شروطها وأسبابها؛ فإن للفتنة شروطها ومداخلها كذلك، منها: أنها لا تستطيع الدخول إلى أي مجتمع إلا إذا كانت تجد حاضنة اجتماعية وثقافية تضمن لها الاستقرار والاستمرار، وهذه الحاضنة لا تأتي من فراغ وإنما لها أسبابها المختلفة، مثل: الشعور بالتهميش الاجتماعي أو التمييز المذهبي، ومنها أيضا: ترك المجال لخطاب التحريض والفتنة ليصول ويجول في المجتمع كما يشاء، سواء عبر منابر المساجد أو القنوات الفضائية أو مواقع التواصل الاجتماعي، وعندما تتحقق هذه الشروط والأسباب؛ فإنه من الطبيعي أن يكون هناك احتقان طائفي في المجتمع، وعندما يحدث الاحتقان تكون الأرضية قابلة للانفجار -لا قدر الله- كما يحدث في بعض الدول العربية اليوم.

إن من يقرأ الفكر السامي لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله وأمده بالصحة والعافية- يجد أن جلالته كان يملك رؤية استشرافية لمستقبل المنطقة، فقد حذّر جلالته من تنامي ظاهرة العنف والتطرف في خطابه التاريخي بالعيد الوطني الرابع والعشرين عام 1994 وطالب المواطنين بالحذر من "هذه الأفكار التي تهدف إلى زعزعة كيان الأمة، وأن يتمسك بلب مبادئ دينه الحنيف وشريعته السمحة التي تحثه على الالتزام بروح التسامح والألفة والمحبة"، كما حذّر -حفظه الله- من تراخي الأمن والاستقرار حيث قال: "إن الأمن والاستقرار نعمة جُلّى من نعم الله تبارك وتعالى على الدول والشعوب، ففي ظلهما يمكن للأمة أن تتفرّغ للبناء والتطوير في مختلف مجالات الحياة..."، وحذّر جلالته من عواقب اضطراب حبل الاستقرار واهتزاز أركانه الذي يؤدي إلى "الفوضى والخراب والدمار للأمة وللفرد على حد سواء"، ومن يرى ما يحدث في بعض الدول العربية يُدرك بكل وضوح أن صاحب الجلالة المعظم كان يقرأ المستقبل بعين ثاقبة ودقيقة، وأنه كان يدرك أهمية الوحدة الوطنية في استقرار المجتمع والبلاد، ولذلك أكد جلالته على جميع المواطنين في البلد بضرورة حفظ التلاحم الوطني، وتجنب عوامل الفرقة والتشرذم، وقال بأنه: "على كل مواطن أن يكون حارسا أمينا على مكتسبات الوطن ومنجزاته التي لم تتحقق إلا بدماء الشهداء، وجهد العاملين الأوفياء". ولضمان حماية المجتمع والفكر العماني الأصيل من الأفكار الضالة والمناهج المنحرفة؛ حذر جلالته -أمد الله في عمره- المواطنين من الأفكار الدخيلة التي تخالف المنهج العماني في التفكير والسلوك والمعتقد، ودعا إلى التمسك بالسياسة الوطنية للسلطنة الذي تتمثل في الفكر التنويري الذي يقوم على منهج السلم والتعددية والاعتدال ونبذ التطرف؛ ووصف الأفكار المنحرفة بقوله: "إن التطرف مهما كانت مسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العُمانية التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق"؛ ولذلك فإن الحفاظ على وحدتنا الوطنية هو واجبنا جميعا من أجل الحفاظ على وطننا الغالي عُمان. وليكن شعارنا جميعا: مذهبنا هو عُمان.

تعليق عبر الفيس بوك