نظراتٌ فاحصة(3) المتقاعد

د. صالح الفهدي

أوقفني متمعناً خبرٌ قرأته عن زيارة وفد برنامج كابستون بالولايات المتحدة الأمريكية إلى البلاد والتقائه بمسؤولين عسكريين برئاسة الفريق أول متقاعد جوزيف أشي General Joseph Ashy. شدّني في الخبر أن يرأسه "متقاعد" فسألتُ نفسي: أينَ نحنُ من المتقاعد، هذا الكنز المعطاء الذي تراكمت خبراتهُ، وتزاحمت تجاربه، وبلغَ من الكفاءة مبلغها، ومن الحنكةِ أنضجها، ومن الحكمةِ أصفاها؟!

إن الثقافة السائدة لدينا أنّه إذا تقاعد الموظف نُظرَ إليه وكأنّه فقَدَ جزءاً ثميناً من شخصهِ، وخسرَ قيمةً عظيمةً من وجاهته، وتوهّمتِ العقول أنّه ما "تقاعد" إلاّ لأنه لم يعد له مكانةً كان يحظى بها عند صاحبِ القرارِ..! وظّن البعضُ أنّ الخبرات التي حازها، والكفاءات التي امتلكها إنما انتهت صلاحيتها مع صدور قرار "التقاعد" وكأنّما الإنسانُ آلةً يعملُ نظامها حسبَ التوقيت..! هذه كلها أفكارٌ موهومة، وتخرّصاتٌ مزعومة، لا يجبُ أن يفكّر فيها راشد العقل. ولو أنّ الحكومة قد كلّفت وفداً يرأسه متقاعد لمهمّةٍ من المهامِ، أو شكّلت لجنةً لدراسةِ مشروعٍ من المشاريع، أو لبرنامجٍ من البرامج لقلبت هذه الأوهام رأساً على عقب، ولنبذتها، وأطاحت بها..! حينها يغيّر المجتمع نظرته إلى "المتقاعد" بصفته نبع عطاءٍ مستمر الدفق، لا ينبوعاً امتقع مصدره، وجفّت ساقيته، ونشف سلساله..!

قال لي مسؤول في جهةٍ ما أنّه خرجَ في إجازةٍ، فلّما عادَ بعد فترةٍ سأل عن كبيرٍ للمهندسين فقيل له: أُحيل للتقاعدِ بسبب بلوغه السنّ القانوني، فقال: أولَا تعلمون أنّه هو المسؤول عن المشروع الفلاني، فقيل نعم ولكن طبّق عليه القانون، يقول فأعدتُ التعاقدَ معه براتبٍ آخر لأننا كنا سنخسر خسارةً فادحة بسبب خروجه..!! وآخر كان يرأسُ مشروعاً قطعَ فيه شوطاً فإذا به يتفاجأ بإحالتهِ للتقاعدِ وهو الذي قد ألمَّ بجميعِ خيوطِ المشروعِ، وخبر تفاصيله وخفاياه، فإذا بالمشروع بعد خروجه يتعثر، وإذا بما تأسس واستثمر من أموالٍ تضيع..!! المقصدُ هنا ليس في عدمِ تطبيقِ قانون التقاعدِ إنّما في النظرِ إلى المتقاعد بوصفه "ثروةً وطنيّة" لا يجب تركها عرضةً للنضوب، والاضمحلالِ..!

سامحَ الله من سمّاهُ "متقاعدا" فهي كلمةٌ مقيتة، تبعثُ على الدّعةِ، وتحضُّ على السكونِ فهي من "القعود"..! أمّا التقاعد في حقيقتهِ فهو بدءُ حياةٍ جديدةٍ يفعل فيها المرءُ ما حرمتهُ الوظيفة من فعلهِ طوالَ عمره المنصرم..! فهو يعيشُ الحريّة التي تمكّنهُ من ممارسةِ أحبّ الأعمالِ إليه، وأمتعها إلى نفسه وهذا ما يقوله أحدهم:"خلالحياتي.. رأيتكثيرًامنالأصدقاءالمقربينيتركونهذهالدنيا،قبلأنيفهمواالحريةالعظيمةالتيتأتيمعالتقاعد؟!".

إنّ النظرة نحو التقاعد يجب أن تصحَّح أكان ذلك على صعيد الحكومة أو على صعيد المجتمع، وأراهنُ على أنّ تصحيح النظرة الاجتماعية كما أسلفت تصححها الحكومة بنظرتها نحو المتقاعد ليس بحضوره الاحتفاليات وإنّما بتكليفهِ بمشاريعَ، ومهّام، واستشارات تمكّنهُ خبرته التي حصدها في سنواتِ العمل من تقديمِ الآراءِ السديدةِ فيها. وليس من شكّ أنّ مجلس الدولة قد استفادَ من خبرات الكثير من المتقاعدين من ذوي الكفاءات والخبرات الناضجة الذين ينظرون للأمور نظرةً فاحصةً ذات بُعدٍ إستراتيجي له وزنه، وقيمته.

أصحابُ هذه الخبرات الإنسانية والكفاءات المهنية لجديرين بأن تكوّن لهم الحكومة أشبه ما يكون ببيوت الخبرةِ أو أندية كفاءات يصبُّ فيها هؤلاءِ عصارة تجاربهم لدراسةِ مشاريع، أو متابعةِ خطط، أو وضع استراتيجيات في مناحٍ مختلفة حتى لا تطمر ثروة إنسانية هائلة. أخبرني أحد هؤلاءِ أن مجلساً استشارياً أرسل إليه من يدعوه للمجلس لإبداءِ مرئياتهِ وآرائه، يقول: أجبتُ المُرسل بأنّه ليس عندي مانع ولكن عليهم أن يدفعوا لي ثمن كل ساعة بكذا طالباً إليهِ أن يفهمهم بأن ذلك ليس حبّاً للمال وإنّما قيمة للمعلومة التي أعلمُ يقينا بأن اسمي لن يُذكر في أي تقرير يصدره المجلس..! ولو كان هذا "المتقاعد" الخبير قد كان ضمنَ بيوت خبرةٍ لسهل الأمر على المؤسسات الحكومية التي هي بحاجة ماسة إلى من يرفدها بالدراسةِ والبحث والنصيحة من هؤلاءِ الخبرات.

ويخبرني صديق أنه ابتعث أثناء الخدمة مع وفدٍ عسكري لدورةٍ في إحدى الدول الأوروبية فكان ضمن البرنامج الالتقاء بأحد القادة العسكريين المتقاعدين الذي كان لقاؤهم به من أهم وأمتع اللقاءات التي أكسبتهم الخبرة في مجال الدورة..!

أمّا الوجه الآخر للتقاعد فهو نظرة المتقاعدِ إلى نفسه فإمّا أن تكون نظرةً سالبة، سوداوية وكأنّ الدنيا قد أقفلت أبواب حظوظها ومباهجها أمامه، أو تكون نظرةً إيجابية فتطابق ما قاله Hartman Jule عن نفسه :" كَشَف التقاعد عن مواطن الجمال الكامن في نفسي؛ لم يكن لديَّ الوقت سابقاً لأدرك جمال أحفادي أو زوجتي، أو الشجرة التي هي خارج باب بيتي وكذلك جمال الوقت نفسه". أمّا الذي كان يظنُّ أنه سيقضي العمر في الوظيفة حتى يموت على كرسّيه فذلك واهمٌ، فالأيّامُ دولٌ بين النّاس، كما إنه ممن يريدون أن تمضي حياتهم على نسقٍ واحد لا يتغيّر. فإن أخبر عن إحالته على التقاعدِ ارتجفت فرائصه، وأغمي عليه، ثم تكاثرت عليه الأمراض، واعتزل المجتمع..!

أو أنّه حسب أنّ الحياةَ انتهت وأنّها إشارة على الموتِ بالانزواءِ بعيداً، فإذا به يعتزلُ النّاس ولا يشاركُ المجتمع مناسباته. أو أنّه نظر إلى التقاعد على أنّه ذلٌّ وإهانة تتركُ في نفسهِ أثراً عميقاً لا يزولُ مع الأيامِ وإنّما تبينُ آثارهُ..!. ولسانُ حاله يقول ما قاله الشاعر[1]:

متقاعدٌ سكنالفراغُعظامي .. واليأسُداهمَسائرَالأيامِ

متثاقلٌياليتنيلمّاأعشْ .. لأرىهموميتستبيأحلامي

أبنيّماعادَالوجودُيريدني ..أفلاأموتُفقدْكرهتُمقامي

إن الإنسان الواقعي هو الذي ينظرُ لمرحلةِ التقاعدِ على أنّها من أنضرِ الفتراتِ، وأسعدها عيشاً، وأرحبها أٌفقاً، فقد قضى عمرهُ في صناديقَ مغلقة، يدخلها كلّ صباحٍ ويخرجُ منها في وقتٍ متأخر، أما في التقاعدِ فهاهو الكونُ مجالاً فسيحاً أمامه يدعوه كي ينعش روحه بما تهواهُ نفسه من الهوايات والأعمال والأنشطة، أفلا يلبّي دعوته..؟! ثم إن الواقعي هو من يحضّر نفسه لهذه المرحلة قبل أن تحين، يقول Robert Half :"هناك من يبدأ تقاعده في فترةٍ طويلةٍ قبل أن يتوقف عن العمل".. أحد الأصدقاء الراشدين قال لي وهو على رأسِ عمله: لقد أعددتُ نفسي لمرحلةِ التقاعدِ أكان ذلك بانتقائي للأصدقاءِ أو استعدادي لتقبّل حقيقة انقطاعِ البعضِ عني، أو ممارسة الأنشطة التي تشغلُ وقتي، أو ضمان مصادر جديدةٍ للدخل تسدُّ النقصَ المترتّب على التقاعد".

هذه نظراتٌ فاحصة يجبُ أن تسودُ لدى كلّ موظف، حتى يصبح التقاعد بالنسبة إليهِ بداية حياةٍ جديدة، حافلة بألوان بهيجة من السعادة والعطاء. هذا هو الأصلُ في ديننا العظيم الذي يوصي نبيّه الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله:"إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يفسلها فليفعل"[2].. وقيامة الإنسان هي موته، بمعنى أنّ الإنسان لا يجب أن يتوقف عن العمل حتى في اللحظات الأخيرة التي تفارقُ فيها روحه جسده..! العمل حياة، فإن توقف الإنسان عن العمل فليس له سوى انتظار المرض والموت..!

خاتمةُ القول: أنّ التقاعدَ ليس نهاية الحياة، وإنّما بداية حياةٍ جديدةٍ، لها طعهما الذي قد يكون أشهى من كل طعمٍ سابقٍ، ولها ميزاتها التي ينعمُ بها الإنسان كما لم ينعم من قبل. وأن مفردة "متقاعد" ليست هي اللفظة التي تناسبُ هذه المرحلة فلم يصب من سمّاه "التقاعد" كحال الذي لم يصب من سمى "المعاق"..! وأنّ تصويب الحكومة للثقافة السائدةِ أمرٌ لا غنى عنه بأن يكون أصحاب الخبرات الثريّة، والتجارب الغنيّة مصدراً من مصادرِ المعرفة، وأساساً من أسس القيادة.



[1]- الشاعر السعودي عادل خميس

[2]رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه

تعليق عبر الفيس بوك