أماكن الغائبين

 

ناصر الجساسي


نستطيع الصوم في رمضان عن كل شيء، إلا عن فلذات أكبادنا وأحبابنا، وممن احتلوا مساحات شاسعة في قلوبنا، والذين هم فارقوا حياتنا وأعيننا وأصبحوا عظاماً تحت التراب؛ ففي كل بيت: أب مات لكبر سنه، أم توفاها الله لمرضها، ابن مات بسبب حادث مروري، نعم نستطيع الصوم عن الأكل والشراب، وعن جميع المفطرات، لكن هيهات نستطيع الصوم عن الذين زرع الله محبتهم في صدورنا، وأصبحت قلوبنا تنبض بحبهم وتهفوا دائماً لقربهم والأنس بحديثهم وضحكهم.

يأتي رمضان في كلِّ عام يُذكِّرنا بخالقنا، يُهذِّب نفوسنا، يعيد في الذاكرة شريط أحبتنا الذين غادروا دنيانا تاركين في قلوبنا سيلاً عارماً من الأشواق والدعوات لهم في صلاتنا وقيامنا وفطورنا وما يميز رمضان عن باقي الشهور اجتماع العائلة في توقيت واحد ولحظة إيمانية رائعة وهي أذان المغرب؛ فما أجملها من لحظة حينما تسمع "الله أكبر الله أكبر"، وتبدأ في تناول الفطور، وما أقساها من لحظة حينما تتذكر أنه في رمضان الأعوام الماضية كان يفطر بالقرب منك أحد أفراد العائلة، ولكنه في هذا العام أخذه الموت وترك مكانه فارغاً.

ما أقساها من لحظة على قلب الأم التي تعوَّدت رؤية أبنائها يفطرون بجانبها كلَّ عام، وتنظر إلى مكان ابنتها وتجده فارغاً! ما أقساها من لحظة على قلب الأب الذي كان يعد ابنه للمستقبل فأخذه الموت على حين غرة.. إنها لحظات اجتماع وفطور، ولكنها مُؤلمة، ومن الصعب نسيانها، ويعاد شريطها في كل "رمضان"!

اليوم نرى مكان غيرنا فارغاً، وتنفطر له قلوبنا ويعتصرنا الألم، وغداً لا محالة سيكون مكاننا نحن فارغاً؛ فهذه هي الدنيا لا أمان لها ولا قرار لها، وعلينا في رمضان أن ننظر دائماً لأماكن الغائبين بجانبنا، وأن نملأها ذكراً وتسبيحاً ودعاءً لهم واتعاظاً من غيابهم.

قد يأتي رمضان القادم ونترك مكاننا الذي نجلس فيه الآن ويصبح فارغاً، قد يأتي رمضان القادم ويبكي علينا أهلنا وإخواننا وأحبابنا، قد يأتي رمضان القادم ونكون ذكرى في قلوب إخواننا ودمعًا لا يجف على خد أمهاتنا، وعلينا أن نتعظ من أماكن الغائبين، وأن نتهيَّأ للغياب بقلوب سليمة وبأعمال صادقة وخالصة لوجه الله تعالى.. علينا أن ننظر إلى تلك الأماكن الفارغة بشيء كبير من الإيمان بالقضاء والقدر، وأن مصيرنا إليها قادم؛ فالموت حقٌّ على كل إنسان.

وأخيراً: ماذا أعددنا للأماكن التي سنتركها فارغة؟! هل سنتركها فارغة حقاً أم سنضع بصمتنا عليها ويبقى أثرها في ديننا ووطننا؟!

تعليق عبر الفيس بوك