لفظ الجلالة

مُحمَّد رضا اللواتي

يتألف لفظ الجلالة من أربعة أحرف، وهو يكاد يكون طبق الأصل شبها لأقدم المنحوتات التي عثرت عليها الأبحاث الإنثروبولوجية في آثار الديانة الهندوسية الموغلة في القدم؛ حيث إنَّ الاسم الدال على "أوم" أو "براهمن" الإله الأكبر، كان -ولا يزال- يتألف من "ألف"، أو "لام" يتكرَّر ثلاث مرات، والأمر المثير أن "أليوت اسميث" المتخصِّص في الآثار المصرية القديمة جدًّا، عثر أيضا على اسم نحته المصريون القدماء للإله العالم، يكاد يكون شبيها تماما للفظ الجلالة لدى المسلمين، وذاك الذي لدى الهندوسية القديمة!

وإذا تجاوزنا الاسم إلى المسمَّى، نجد أنَّه موضوع للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال؛ سواء لدى المسلمين أو في المصرية أو الهندوسية القديمة. وعناصر التشابه بين الحقيقة المطلقة في الديانات الثلاث تكاد تبلغ الذروة؛ فالهندوسية القديمة اعتقدت -وفق علي زيعور في دراسته النفسية عن الديانات الهندية- بحقيقة مطلقة، تمتنع على العدم، لا حدَّ لوجودها، مُبتهجة بذاتها، كيان غير محدود، مدرك، عاقل، كلي الحضور، يحكم العالم ويحرسه، صدر عنه كل شيء، وستعود إليه كل الأشياء لتمثُل بين يديه!

ليستْ الأشياء بمعزل عنه، فهو -كما ينقل أديب صعب في دراسته عن الأديان الحية- يسكن فيها ويتغلغل، لكنه يختلف عنها جميعا، يحكم كل شيء من الداخل ولكن لا يعرفه أحد؛ فهو السامع غير المسموع والمدرك غير المدرك. لا يمكن إدراكه إلا بالنقاء والطهارة، فبهما يمكن إدراك ما ليست له أجزاء.

أما في المصرية القديمة، فيقول فراس سواح في كتابه "الأسطورة والمعنى"، إنَّ العلامة السير والس بدج -منذ أوائل القرن العشرين- عَمَد إلى دراسة مدققة لنصوص الديانة المصرية القديمة، وخلص إلى القول بأنَّ المصريين كانوا قوما يؤمنون بإله واحد موجود بذاته، خفي أبدي أزلي كلي القدرة والمعرفة، لا تدركه الأفهام والعقول، خالق السماء والأرض، وكل ما عليها.

تُرى، ما علاقة الإيمان "بكائن ضروري الوجود" وصياغة اسم يدل عليه يتألف من "لام" أو "ألف" يتكرر ثلاث مرات على هيئة واحدة؟ وفي أكثر من حضارة لا ثمة سبيل لإثبات تسرب حقيقي بينها؟

لا نملك جوابا يستطيع البت في الأمر يقينا، إلا أننا نشير إلى أن جمعا من المحققين مالوا إلى جواب عن التساؤل المار، حاصله أنَّ للطبيعة البشرية ردة فعل واحدة تجاه "واجب الوجود"، في حين ذهب آخرون إلى أنَّ ثمة تسريب للألوهية بين الحضارات القديمة بنحو غريب لا يبعد أن يكون مصدره عمل مقدس، استطاع حفظ ملامح الحقيقة المطلقة حتى على مستوى التعبير عنها في عالم الكتابة والرمز.

ولنعد إلى لفظ الجلالة، يقول بعض أهل العلم: إنك إن حذفت منه "الألف"، لتحول إلى "لله"، وهو اسمه تعالى، قال تعالى "ولله ملك السماوات والأرض"، وإن حذفت منه اللام الأولى؛ لتحول إلى "له" فما خرج عن اسمه تعالى، قال تعالى: "له الملك والحمد"، وإن حذفت اللام الأخيرة لتحول إلى "الهاء"، ولم يخرج عن كونه اسمه تعالى أيضا، قال تعالى: "هو الحي"، والأصل في "هو" الهاء وليس الواو؛ فالواو زائدة، بدليل أنك تستغني عنه في التثنية "هما" وفي الجمع "هُم"؛ فالمعنى كامن في الهاء وحدها. ومعنى هذا أن حذف جميع أحرف لفظ الجلالة وإبقاء واحد منها فقط، لن يُخرجه عن التدليل عليه تعالى. وقد عُد "الهاء" من أسمائه تعالى؛ فالقرآن مشحون به "هو الله الأحد"، ورووا أن الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- كان يكثر من ذكر "هو" في غزوة بدر، ويردد "يا هو، يا من لا هو إلا هو" في غزوة أحد.

... لهذا الاسم الشريف خاصية أخرى، وهي كونه موضوعًا لواجب الوجود، أو الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال؛ لذا فإن شهادة الإسلام لا تقبل إن استبدل فيها لفظ الجلالة بغيره من الأسماء الحسنى، بالرحمن مثلا، أو القادر أو العليم...أو غيرها؛ لأنها كلها تدل على صفة من الصفات. أما اللفظ الدال على جميع الصفات في كيان واحد؛ فذاك ليس غير لفظ الجلالة.

"رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا".

mohammed@alroya.net

تعليق عبر الفيس بوك