الموظفون اللئام في بلاد "العم نام"

ناصر أبو عون

في بلاد "العم سام" عددُ موظفي القطاع الحكومي 4.4 ملايين فقط من أصل 315 مليوناً هم تعداد سكان الولايات المتحدة بمعدّل موظف واحد لكل 71.6 مواطناً أمريكيًّا، ولا تتحمَّل الحكومة الفيدرالية أيَّ التزام قانوني بتعيين المواطنين. والنقيض المقابل لتلك الصورة العقلانية والزاهية تضخُّم أعداد موظفي الحكومة في "بلاد العم نام"، حيث قاربت طبقة موظفي القطاع الخاص على "الانقراض"، ناهيك عن تدنِّي إنتاجية الموظف الحكومي لتصل مدة عمله يوميا إلى ما بين 18 و25 دقيقة؛ وفقَ دراسة قام بها الاتحاد العام للتنمية البشرية.. وبحسب الدراسة، فإنَّ إنتاجية الموظف الحكومي المصري بلغت في أقصاها 30 دقيقة، و22 دقيقة للموظف الجزائري، وتدنت مدة العمل لأدنى مستوياتها في السودان لتصل إلى 20 دقيقة.

ولأننا أمّة ديمقراطية أكثر من أمريكا -راعية الحريات حول العالم- ولأن شعوبنا إسلامية حتى النخاع "لا ترضى بغير المنهج الإسلامي قولا وسلوكًا"، فقد ناضلت في سبيل جعل التوظيف "حقًا دستوريًا" تتكفل الدولة بتوفيره رغم أنفها. أمَّا معدلات الإنتاج في "بلاد العم نام"؛ فحدِّث عنها ولا حرج بدايةً من التراث المتراكم في فن "التزويغ، والمراوغة، والمحاصصة، والمساومة، والواسطة، والسرقة، والرشوة"، وصولا إلى "حشر الموظفين في المكاتب، وعلى المصاطب، وتحت السلالم"؛ سواء ارتبط هذا العمل بالحاجة إلى الوظيفة أو عدمه. كما أننا تفوقنا على الدول الديمقراطية الكبرى فأصبح في بلد العرب من أقصاها إلى أقصاها "خوابير" لا "خبراء" في القانون من أصحاب "الفتاوى سابقة التجهيز"، ما بين مغيَّبين غالبًا، أو غائبين عن "شمولية المعرفة"، وجاهلين "بضغوط الميزانية واحتياجات الموازنة"؛ فأفتوا ضلالا وجهلا بأنَّ "إيجاد الوظيفة مستقل عن الأداء الاقتصادي الكامل للمؤسسة".

وفي الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات الناجحة في أوروبا بـ"إعادة توزيع المهام داخل المؤسسات وفقا لطبيعتها وظروفها واختيار المدير الناجح القادر على قيادة أوركسترا العمل نحو تحقيق النجاح وزيادة الأرباح"، نشاهد في الوقت ذاته المؤسسات الفاشلة في "بلاد العم نام" يتفنن رؤساء مجالس إدارتها -والقائمون عليها- في إرضاء بعض موظفيهم "النائمين" بالتجديد لهم بعد بلوغهم سن التقاعد القانوني، واختراع عدد من الوظائف تحت مسميات خادعة حينًا، وكاذبة غالبًا ما بين "مستشار، ومندوب، وخبير، ومدرب من الخارج"...وغيرها من المسميات المستحدثة بمعرفة الجهاز الإداري لحكومات "بلاد العم نام". والتي تكبِّد ميزانية الدولة ملايين الدولارات سنويا؛ فعلى سبيل المثال بلغ إجمالي أعداد المستشارين في القطاع الحكومي المصري -وفق حصر أجراه الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة- 750 مستشارًا حكوميًّا، يعملون بالجهاز الإداري والهيئات العامة والجامعات والمحليات، وقدرت النفقات السنوية التي تتحمَّلها الدولة بشأنهم 52.7 مليون جنيه تتحمل موازنة الدولة منها نحو 42 مليون جنيه خاصة بـ528 مستشارًا، إضافة إلي 11 مستشارًا غير محددي التكلفة، وتتحمل الصناديق الخاصة تكلفة 121 مستشارًا تقدر بـ44 مليون جنيه سنويًا، إلى جانب 24 مستشارًا غير محددى التكلفة.

ولأنّ المستشار في "بلاد العم نام" (لا يُستشار) و"المفروض مرفوض"؛ فقد أصبح شاغل هذه الوظيفة قدوةً يُحتذى في إثارة المشكلات، والتفنن في "طرد الكفاءات"، ولأن "الفاضي" دائما يعمل "قاضي"؛ فبعد انتهاء جناب المستشار من قراءة الصحف على صوت الراديو، يبدأ في سيل من "السوالف" عبر "الهاتف" ما بين محليّة ودولية، وبدلا من أن ينقل خبرته لصغار الموظفين، ويدرس أمراض ومشكلات المؤسسة المزمنة التي عاصرها وساهم في صناعة جزء منها عندما كان موظفًا صغيرا، يضيّع وقته في "القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"، ويضيّع وقت الدوام ما بين الوصول المتأخر إلى العمل، وخروج مبكر منه، ناهيك عن الدردشة غير الضرورية على الواتس آب، وتصفّح شبكة الإنترنت والمواقع الاجتماعية لأسباب لا علاقة لها بالعمل، والتدخين المتكرر، والخروج لتناول الطعام أو القهوة. والإحصائيات العلمية خير دليل على انخفاض إنتاجية الموظف في بلادنا لتصل إلى 5 في المئة فقط، مقارنة بنظيره في "بلاد العم سام"؛ فإنتاجية العامل الحكومي في أمريكا وألمانيا بلغت قرابة 50 ألف دولار سنويًا، بينما لا تتعدى لدينا 7 آلاف دولار. ودخلت منظمة "جالوب" العالمية على الخط أيضا بدراسة شملت 142 دولة، ونشرت قبل أيام، تبيَّن من خلالها أنَّ 35 من العاملين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غير منتجين، وأن 55 منهم يفتقدون الحافز، وهو ما اعتبر "أعلى نسبة في العالم" - وفق ما نشرته "صحيفة القبس".

وربما توصيف الحالة "العقلية" التي تعاني منها شعوبنا التي وهنتْ عقيدُتها، وضعفتْ عزيمُتها وما زالت ترى في الوظيفة الحكومية أمانًا من تقلبات الدهر، ومهربًا من الكدح، والتطوير، والتحديث، والشقاء في القطاع الخاص. هذه الحالة التي وصلنا إليها يصل توصيفها إلى درجة مطابقتها بـ"الفصام والانفصام" عن الواقع. وإذا كانت "الفكرة الكاذبة تقتل صاحبها" -كما يقول ألبير كامو- فلابد من مواجهة أنفسنا، ونخلع قميص الكذب الذي نرتديه كلّ صباح، ونمزِّق الأقنعة التي نحفظها في خزانة ملابسنا، ونتخلّص من حالة (التجمّل الكاذب) للخروج من هذا النفق المظلم وهذه المواجهة تستوجب من شعوبنا وحكوماتنا التعامل مع العصر بمفرداته وفق الواقعية السياسية التي تقول: "إنك إذا أردت أن تحكم على شخص يحمل لافتة ويردد شعارا. لا تهتم بكلمات الشعار، وانظر إلى رافع الشعار، وشاهده كيف يتصرّف في حياته اليومية. انظر إلى إنجازاته ودعْكَ من كل خطاباته". ولأننا بارعون فقط في التشدّق بالشعارات، ورفع اللافتات، وناصحون ومتناصحون، وفي التطبيق غائبون، ومغيَّبون، وخائبون، وساذجون.

والإشكالية تتمحور -وفق تعبير أحد خبراء الاقتصاد بندوة أقامتها جريدة "عكاظ" السعودية، مارس الماضي- في تركيزنا على معالجة القضايا السريعة أو ما يُعرف بالتخطيط قصير الأجل "هذا إن وجد"؛ بل إن الذي لدينا أشبه ما يكون "بإطفاء حرائق". ويلاحظ الجميـع أن أجهـزتنا الحكومية تلاحق القضايا والمشكلات لعلاجها بعد الوقوع، ولا تقوم بالدور الذي يجب أن تقوم به وهو إيجاد الخطط ووضع البرامج ورسم السياسات التي تكفل إيجاد الأرضية المناسبة لعدم وجود المشكلات أصلا وقيادة المجتمع وفق مسارات محددة ومرسومة مستقبلا.

... إنَّ المرحلة التنموية التي تمر بها شعوبنا تستوجب تركيز اهتمامنا على تطوير "اقتصاديات الكفاءة"، ومأسسة التكيف الهيكلي لاقتصادنا الوطني حتى يرتقي إلى المستوى المناسب لمواجهة التحديات المستقبلية، ولا يعني ذلك بالطبع إغفال "اقتصاديات التنمية" لتحقيق التنمية بمعناها الأكثر شمولية وتعزيزها في مختلف المجالات، حيث إنّ "الكفاءة" أصبحت أحد الهواجس ذات الأولوية وعلى مختلف المستويات.

وللأسف، نحن أمة تحصيل الأجر فيها يقتضي الجمع بين الإيمان والعمل، ولدينا ميزة نسبية تمثل علامة فارقة، وهي بمثابة "رافعة للتقدّم"، وضمانة للرقيّ الحضاري، ولكنها "عَمَتْ أو تعامتْ"، "نسَتْ أو تناستْ أو أُنسيتْ" قصرًا هذه الميزة ألا وهي "مبادئ الإسلام" رافعة التقدّم منهجًا وعملا. غيرَ أنّها أُصيبت في ضميرها الجمعي بسهم مسموم يسمى بـ"الشكلانية" حتى صرنا "عالة" على بقية شعوب العالم، أو كما قال الإمام محمد الغزالي -رحمه الله- "إذا قيل للمسلم اخلع ما لم تصنعه يداك لوقف عاريا"، و"إذا قيل له لا تأكل ما لم تزرعه يداك لمات جائعًا". فالإسلام يماثل "الوصفة الطبيّة الكاملة" التي يمنحها الطبيب للمريض؛ فأيّ تخلّف في تطبيق هذه الوصفة بالشكل الكامل يكون المريض هو المسؤول عنه، لا الطبيب. وتخلّف المسلمين يعود سببه إلى تخلّفهم عن تطبيق الإسلام تطبيقاً كاملاً وشاملاً لكلّ جوانب حياتهم، فأيّ تعثّر في المجرى التكاملي للأُمّة الإسلامية ناتجٌ في الحقيقة عن تعثّر الأُمّة في التمسّك بالشريعة، والالتزام التامّ بها.

فليس الإسلام هو المسؤول عن تخلّف المسلمين -كما ادّعى بعض العلمانيين المتطرفين- بل "المتأسلمون" هم المسؤولون عن ذلك: "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (النحل:118)، و"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11)، و"سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا" (الأحزاب:62)؛ فهذا ويليام سكوت جاكسون رئيس شركة أوكسفورد ستراتيجيك كونسالتنج، يعطي مفهوما أكثر توازنا حول "العلاقة بين الإنتاج والصيام".. مؤكدًا أنّ "الصيام والعبادة والتأمل يجب أن تحترم من قبل الجميع، حتى لو كان البعض من غير المسلمين"، ويدعو جاكسون أرباب العمل المحليين والعالميين العاملين في الشرق الأوسط ألا يكونوا سلبيين، وينخرطون مع موظفيهم في العمل خلال شهر رمضان"؛ لأنه "شهر عمل، وعبادة"، لا "شهر كسل، ونطاعة".

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك