رمضان شهر الصبر.. وفرصة عظيمة لتقوية الإرادة وصدق العزيمة وعلو الهمة

منذر السيفي

إنَّ شهر رمضان فرصة عظيمة لتقوية الإرادة وصدق العزيمة وعلو الهمة وكبت النفس عن فعل المنكر؛ فهو شهر الصبر الذي يتواصى به أهل الإيمان واليقين كما جاء عنهم ذلك في الكتاب العزيز: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، وقول الحق تعالى: "إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب"، وكذلك الصوم أجره غير مُحدَّد؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "كل عمل ابن آدم له.. الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجل: إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"، ولعل المقصود من هذا الصبر والمشقة والتحمل، خصوصاً مع الذي يجتهد في العبادة ويلتزم بأحكام الصوم ويمنع نفسه من أي مخالفة شرعية قد يقع فيها أثناء الصوم، وينقسم الصوم إلى ثلاثة أقسام كما بيَّنها أهل العلم؛ وهي: صبر على الطاعة، وصبر على محارمٍ الله، وصبر عند المصيبة، وهذه الثلاثة تجتمع أثناء الصيام؛ فإنَّ فيه صبراً على الطاعة وصبرا عما حرم الله على النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يُثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين: "ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين"، ومن حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن فضل شهر رمضان: "وهو شهر الصبر، والصبر جزاؤه الجنة".

وللصبر في رمضان مظاهر؛ ومن هذه المظاهر أولاً: الصبر على الجوع والعطش، وفي هذه الأزمنة الكثير من الصائمين لا يشعر بالجوع والعطش؛ لأنَّ النوم يطغي على وقته وساعات العمل تخفظ والإنجازات متوفرة لدى البعض؛ فأي صيام هذا الذي يصومونه؟

فالجوع والعطش لا يشعر بهما إلا من ظلَّ طول نهاره في جهاد متواصل وعمل مخلص وعبادة مستمرة وسعي دائم لله تعالى ولا يشعر بهذا إلا من وفقه الله -عزَّ وجل- والعامل الذي يعمل تحت حرارة الشمس وتعصف به الريح وهو صائم محتسب؛ فمثل هؤلاء الذين يبدؤون أعمالهم منذ طلوع الشمس ولا ينتهون إلا قبيل الغروب فلله در أمثال هؤلاء، ما أصبرهم على طاعة الله عزَّوجلَّ، ومع ذلك لا يعرفهم أحد من الناس في الأرض، ولكن يعرفهم الذي خلقهم ويعرف سرائرهم وما تكنه نفوسهم؛ قال تعالى في الحديث القدسي: "إنه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".

ثانيا: الصبر عن الشهوات؛ فالصائم يحرُم عليه جماع زوجته التى أحلها الله تعالى له؛ وذلك من طلوع الفجر الصادق وإلى غروب الشمس، ولا شك أنَّ هذا الفعل يحتاج لصبر ورباط وجهاد، وعلى وجهه الخصوص الذين تزوجوا حديثاً من الرجال والنساء وما أكثر أولئك الذين وقعوا في المحظور نتيجة عدم صبرهم وعدم اتخاذهم الأسباب التى تحول بينهم وبين ما أحلَّ الله -عزَّ وجلَّ- ومن تلك الأسباب الاشتغال بما أمر الله به من طاعته والاجتهاد في العبادة وإشغال الوقت بالنافع والمفيد، وترك ما يؤدي لإثارته كرؤية النساء السافرات عبر المواقع الإلكترونية أو المسلسلات التي تبث في رمضان دون مراعاة لحرمته، ونسأل الله الستر والعافية، وهناك خطورة في تعمّد إفساد الصيام، وتترتب عليه أحكام شرعية؛ ومن هذه الأحكام: بطلان الصوم في ذلك اليوم، وعليه القضاء فيما أفسد، والكفارة المغلظة وهي صيام شهرين متتابعين، ولا عذر له عن تنفيذ ما ذكرنا مع لزوم التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله، وعدم العودة للذنب، كما أنَّ اللبن لا يعود إلى الضرع مرة أخرى، وشهر رمضان لا يتجاوز ثلاثين يوما؛ فالعاقل حريٌّ به أن يستغله في طاعة الله، وأن يصبر عن فعل المعصية؛ لأنه لا يدري هل سيُتم رمضان؟ وإن أتمَّه هل سيصوم رمضان الذي سيأتي؟! فكم مَنْ تأمَّل ولكن أمنيته باتت هباء منبثاً وصار إلى رمسه وقبره وغادر الدنيا إلى الأخرة!

ومن المشاهد عياناً أنَّ بعض الصائمين لا يهتم بالعبادة في شهر رمضان، علماً بأن رمضان شهر العبادة؛ فتجد التقاعس الشديد عن أداء صلاة التراويح بحجة أنَّ النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- لم يصليها إلا ثلاثة أيام، ومن الاقتداء بالسنة واتباع النبي الأكرم عدم حضور صلاة التراويح، نحن نُقر بأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يُصل صلاة التراويح إلا ثلاثة أيام هذا أمر لا نشك فيه، ولكن نقل لنا أهل السير أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يفتر عن قيام الليل وصلاة السحور يصليها جماعة مع أصحابه الكرام، وكان يرابط لأجل ذلك ومن سنته الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ فمن أراد الاقتداء فعليه أن يقتدي بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع أقواله وافعاله لا يترك شيئاً منها أو يفعل ما يقوى عليه وما لايقوى عليه يضرب به عرض الحائط كما هو واقع كثير من المسلمين اليوم ما يحلو لهم طبقوه وشددوا عليه وما لا يقدرون عليه تركوه، وتساءلوا من أجله ووقعوا في المخالفات الشرعية؛ لذا فإنَّ المساجد في بداية رمضان تمتلئ بعُمَّارها ثم ما يلبث ذلك التجمع إلا الأسبوع الأول، ثم يغادر الناس المسجد، وكأن صلاة التراويح شُرعت في الأسبوع الأول فقط.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار"، ويقول: "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النيران وغللت الشياطين". وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما في شهر رمضان لتمنيتم أن يكون سنة".

وبالجملة؛ فإنَّ رمضان له مكانة عظيمة ومزية كريمة لمَنْ أعطاه حقَّه وصامَه إيماناً واحتساباً.. جاء في حديث: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وقال: "لخلوف فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك". وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستقبلون رمضان قبل قدومه بالبشر والفرح والسرور، وكانوا يمرنون أنفسهم قبل دخول الشهر بصيام الجزء الأول من شهر شعبان؛ حتى إنَّ السيدة عائشة تقول: "كنا نقضي ما علينا من صيام في شهر شعبان لكثرة ما كان النبي يصومه".

إذا كان يكثر من الصيام في شهر شعبان، وهذا ما ذكرته السيدة عائشة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولها: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً إلا رمضان، وكان يكثر من صيام في شهر شعبان؛ فينبغي علي المسلم الإعتناء بشعيرة الصلاة فهي عمود الدين وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ حزبه أمر، قال: "أرحنا بها يا بلال"، وهناك من يبحث عن الإمام السريع من أجل أن ينتهي من صلاته بسرعة، وقد جعل الله الثواب الكبير لمن قام مع الإمام إلى نهاية الصلاة؛ فقد جاء في الحديث: "من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". والصائم مطالب بأن يستغل رمضان بقراءة القرآن؛ فقد ثبت أن جبريل -عليه السلام- كان يدارس الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم كل عام، وفي السنة التي قبض فيها عليه الصلاة والسلام دارسه مرتين، وقيل عن الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن، ومنهم من كان يختم في كل يوم ومنهم من كان يختم في سبع، ولا ريب أنَّ ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة ومجاهدة وهمة عالية...وهكذا كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

ومن الاحسان أن يشد الإنسان الهمة، ويؤدي عمرة في رمضان مع القدرة والاستطاعة؛ جاء في الحديث: "عمرة في رمضان تعدل حجة"، ولا شك أنَّ مفارقة الأهل والمكان تحتاج لصبر، ولا يوفق لذلك إلا من أراد الله كرامتهم من خواص خلقه، ونسأل الله تعالى أن يُوفقنا لإدراك رمضان وبلوغه وتمامة، ومما رغَّب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان الصبر على أذى الناس وتطاولهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم إني صائم". ومن الذي يستطيع ذلك إلا الصابرون الذين قهروا أنفسهم وواجهوا صوت الكبر لعظمته.

تعليق عبر الفيس بوك