"أحذية الجيش"!

أمل السعيدية

قبل أيام، تلقيتُ دعوة من زميلاتي في العمل للذهاب إلى سوق مطرح ولم أمانع، فعلت هذا بدافع الفضول لاكتشاف هذا السوق الذي عرفته أول مرة من نصٍّ شعريٍّ لسيف الرحبي في مدرستي الابتدائية. هذه هي المرة الثالثة التي أزور فيها السوق والأولى نهاراً. كان جميلاً بأزقته وزحام الناس فيه من كل مكان. بينما كنت أتجوَّل هناك لمحتُ عجوزاً يحمل مجرفا ويطوف به في السوق جيئة وذهابا دون أن يقول شيئاً، والمثير للعجب أن أحداً لم يخف أو على الأقل لم يعترض على وجوده، كأنما صار جزءاً من السوق، علامة من علاماته، سألت واحدة من الصديقات وقالت إنه يطوف هناك منذ سنين عديدة، نفس الهيئة، نفس المجرفة، وربما لنفس الغاية التي نجهلها. هؤلاء البشر لديهم قصص عصية على النسيان والتجاوز.

عندما أنظر إليهم، أشعر بأنَّ الحياة تقدم نفسها من خلالهم، كثيفة وحادة ومتطرفة بلا شك، هذا ما يجعلها منظورة في هذه الحالة أكثر من موقفنا الذي نمارس فيه غالباً طوافاً بلا ضجة غير اعتيادية. لا أستطيع مثلا أن أتحدث عن هذه الشخصيات دون أن تطرأ على بالي "فيفيان ماير" المصورة الفرنسية التي هاجرت إلى أمريكا مع عائلتها.

كانت فيفيان بالنسبة لمن هم حولها غريبة الأطوار، تعلق الكاميرا على رقبتها طوال الوقت، صورت فيفيان آلاف الصور الرائعة لكنها لم تشارك الآخرين من حولها هذه الصور يوماً.

جون معلوف الشاب الذي كان يبحث عن صور تاريخية بغرض الاستفادة منها لمشروع بحثي، اشترى في مزاد علني مقتنيات لفيفيان بقيمة لا تتجاوز 400 دولار فقط، ومن هنا بدأت رحلة البحث عنها. لقد وجد معلوف نفسه مدفوعاً بالفضول للتعرف على هذه الفنانة التي لم يجد عنها أي اشارة واحدة على شبكة الإنترنت، عملت فيفيان لـ40 عاماً كمربية للأطفال. يصفها رب أحد الأسر التي عملت معهم "لقد كانت تصور سلة القمامة من الداخل لكنها مع ذلك لم تبد لي مجنونة، لم أكترث للأمر". أهم ما كانت تبحث عنه هذه السيدة التي عاشت وحيدة، بلا حياة اجتماعية هي غرفة بمفتاح. هذا شرطها الأول عندما تلتحق بالعمل لصالح أي أسرة، عندما شاهدت الصور التي رفعها جون معلوف على مدونة خاصة أنشأها باسم فيفيان ماير لم أستطع إلا أن أفكر بعبقريتها، وصفها فنان شهير بعد أن اطلع على أعمالها: "هذه الإنسانة تمتاز بالرقة، والرقة هي اليقظة الفورية تجاه مآسي الإنسان". في أبسط التجارب التي صورتها فيفيان ماير ثمة تعقيد، ونشاط. صورت فيفيان نفسها، والشوارع، والأطفال، والعمال، والظلال، والأشجار. ليس هذا فحسب، لقد صورت حوادث حقيقية، منها موت طفل أحد الأسر التي عملت معهم بحادث سيارة، سمت نفسها بـ"الجاسوسة"، كانت قريبة من المتسولين، المتجهمين، وعلى الرغم من عملها الذي كان آنذاك عملاً بسيطاً وبأجر قليل إلا أنها اهتمت بالسياسة، لماذا قد تفعل هذا ان لم يكن غرضها نشر هذه الصورة والوصول الى المجد؟ وهل كانت فيفيان تدرك فنية هذه الصور وقيمتها؟ هذه المسائل تعالج في فيلم وثائقي بعنوان (Finding Viviane Maier -2013).

ثمَّة غموض كبير يحيط بشخصية فيفيان، يسميها الأصدقاء "أحذية الجيش" نظراً لمظهرها الرسمي وحذائها وطريقتها في المشي، الفيلم يتعرَّض لشخصيات كانت فيفيان ماير مربيتهم لفترة طويلة، ويبدأون بالحديث عنها. عندما شاهدت الفيلم الوثائقي الذي تم إنتاجه في العام 2013 تمنيت لو أننا اكتشفنا أمر فيفيان قبل أن تموت عام 2009. وتمنيت لو أمكنني ذلك أن أكتب "مونولوجا" متخيلا منها، على الرغم من هدوئها إلا أن صورها تقول كل شيء تذكرت فوراً فروغ فرخزاد الشاعرة الوحيدة الأخرى لكن في ايران هذه المرة وهي تقول:

يمكن للمرء أن يبقى جامداً تماماً قرب السّتارة...

أعمى وأطرش

يمكن للمرء أن يصيح...

بصوت جليّ كاذب:

أنا أحب...

يمكن للمرء أن يلوّث نقاء أيّ حبّ!

ويمكن أن يكتفي بحلّ أحاجي الكلمات المتقاطعة...

كما، "يمكن للمرء أن يمضي العمر راكعاً برأسٍ منخفضٍ أمام ضريحٍ بارد (…)"

فيفيان ماير ونساء كثيرات والرجل الذي كان يطوف بمجرف وآخرون، لديهم عوالم خاصة، وعندما تمتلك تلك الدقة المستبدة التي نسميها "الرقة" تعرف أننا جميعاً بلا استثناء تحت مشرط الحياة، جاهزون للتكشف على هذا النحو، كلٌ بألمه، ذلك الألم الذي حتى وان ادعينا انه متشابه، إلا انه غير عمومي ولن يكون. كتب عن هذا واحد من اهم الأدباء العمانيين.. فعبدالله حبيب يقول في إحدى رسائله التي نشرها مؤخراً: "غير أنني في تجربة الألم، أدرك أنه في نهاية المطاف، هناك من يتألم وحده تماماً، وبسرية متطرفة في الفرادة البالغة لوجوده، وفي التجربة الاستثنائية لحياته. إنها التجربة التي لا تتكرَّر، ولا يمكن البحث عن جذورها وأصدائها في مرجعيات الحزن وتجارب الوجد لدى آخرين. نعم إنني أعتقد أن الاغتراب الروحي والوجودي في تقاسماته الجمعية ليس -في الحصيلة النهائية للأمر إلا البصمة الفريدة التي لا تتكرَّر وإن تكرَّرت الدموع وآهات الروح، وتماثلت". ولا يمكنني إلا أن أؤمن بعد هذا كله بأن ثمة تجارب أصيلة وحقيقية لا تبحث عن شهرة زائفة وإنما تؤمن بشيء خفي: فِعْلٌ من أجل الفعل نفسه. لو لم تكن قد شاهدت أعمال فيفيان ماير والفيلم الوثائقي عنها فأنا أغبطك لأنه ما زال ينتظرك اكتشاف عظيم كهذا.

amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك