حسابات الدنيا

جمال القيسي

هي الدنيا.. لم تعطنا شيئا حقيقيا إلا وأخذته، وما منحتنا قيمة جمالية أو معنى نبيلا أو شيئا عزيزا إلا واقتنصته قبل الأوان (أي أوان!). تنهبنا كل يوم مما لدينا وتسلبنا كل شيء أثير. تأخذ منا الكثير النفيس ولا ترده مطلقا، في سُنة الدنيا لا مجال للرد فيما تأخذه. لربما تعتقد الدنيا، في سنتها هذه أنها أعطتنا أكثر مما نستحق فتعود بكل جسارة لأخذ عطاياها. ونحن في كل نعيم هذه المنح والعطايا، وبلواء الفقد وأوجاع الرحيل وحدنا الخاسرون؛ تعطينا الأحبة ببهائهم ونبلهم وفروسيتهم ثم تعود بعد سنين وعقود من المحبة والوئام والألفة ومذاق الحياة فتخطفهم دون رأفة بأرواحنا. تحرق قلوبنا عليهم وتجعلنا من بعدهم في ألم ووجع وذهول حد التمني لو أننا متنا قبل هذا وكنا نسيا منسيا.

هي الدنيا التي نسقي شجرتها كل يوم من عيون القلب، بكل إيثار وحب وولاء ووفاء، لكنها تأبى إلا الرد بالخذلان والحجود والنكران. نستحلفها الوفاء برد الجميل بالجميل أو عدم الغدر على أقل تقدير، لكنها لا تسمع. تسومنا كل عذاب مستطير. نسترحمها الرأفة بالقلب والروح فلا تقبل سوى شلع المهجة وشرخ الوجدان. نستحلفها بالله وأيامنا، فلا ترحم ولا تسمع. يا لضعف قوتنا إزاء جبروتها، ويا لهواننا على أنفسنا. يا لعجزنا ونحن لا نملك نحوها سوى ما لا نعرف، أو قل لا شيء في أيدينا غير بعض أشكال من العتاب البريء المسكين. ولكن هل يتصرف المرء حتى وهو يبتغي الخلاص من الحياة غير جنون وضراعة ذراعيه فيقاوم فيهما أمواج الغرق مدافعا عن الحياة كي يظل على قيدها.. لكم أتعبنا حب البقاء على قيدها!

لكنَّ السؤال المكتوم هو كيف نتمسك بهذه الدنيا رغم كل ما تفعل؟ هو السؤال المسكوت عنه منا جميعا؛ أن المرء يتشبث بأطرافها حتى لو اختار أن يسير نحوها (مختارا)! نحو موت زؤام، كي يخلصه من ثقل الأيام والليالي. وكل رحيل للأحبة نتجرعه ما هو إلا موت زؤام. نصحو على غيابهم فيأخذنا الراحلون صوب أرواحهم الحبيبة فنحس أنهم يسمعونا، ونشعر أنهم لا يملكون شيئا إزاء لوعتنا ولو حتى الإشفاق. وتتزايد علينا هلوسات الفقد؛ فيخيل لنا كل صباح.. كل مساء. أن أحباءنا نالهم التعب. يضيقون ويختنقون بالحفرة الضيقة، ويتناوب عليهم العطش ووهج القيظ ورمضاء الوحدة والوحشة، وما هم كذلك أبدا؛ بل هم في حال خير من حالنا لو كنا نفهم الدنيا عل خير وجه. أو على وجه فيه شيء من الإيمان ولو بأي شيء.

هو تواطؤ لضدين نعيشه بكل أساه ما يدفعنا له الفقد المرير؛ الرغبة في الحياة مع من فقدنا، وإن لم لا نملك، في هذا، سوى التمني، والرغبة في الموت واللحاق بهم رغم كل ما يجعلنا نتشبث بالحياة، وبما تبقى من الأحبة. ننام على جراحنا، نستيقظ. تمر علينا لحظة الصحو الأولى عادية. مثل أي يوم سابق كنا نصحو فيه؛ دون إدراك للحال الجديد. حتى إذا انقضت ومضة اليقظة الأولى أدركنا ما نحن فيه من بلاء؛ يا للأحزان فقد رحلوا.

لا ضَيْر من البكاء. يجمع الطب النفسي على أن البكاء على الراحلين مهم وضروري، وأدعى إلى تقليل الألم، حتى إن هؤلاء العلماء يؤكدون على ضرورة مراقبة من لا يبكي الفقيد؛ لأن ذلك معناه أن الشخص المبتلى في حالة نفسية صعبة أكثر ممن سواه، وحالته غير طبيعية مطلقا؛ الأمر الذي يستدعي استشارة طبيب مختص. وكل هذا يعني أن دموع العين هي مجرى ألم الروح التي ستنفجر لو لم تجد منفذها وخلاصها عبر العيون. هذه الدموع التي تؤكد الخروج من حالة الذهول وعدم التصديق؛ إذ التصديق مرحلة من التعافي، والانتقال إلى مرحلة التصبر والتكيف والتسليم بقضاء الله وقدره.

وإنا لله وإنا في كل مصائبنا له راجعون.

تعليق عبر الفيس بوك