"يا رمضان دوك جرابك"

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

تقول الأسطورة الشائعة في مدينة صُور أوفي عُمان بأسرها، أو في الخليج بوجه عام؛ فالفضاء الجغرافي والثقافي واحد لكل هذه المنطقة، تقول الأسطورة هذا المثل الشهير (يارمضان دوك جرابك) أي يا رمضان خذ جرابك، والجراب لغة له عدة معان يهمنا منها هنا ما يلي: الجراب وعاء يحفظ فيه الزاد والأغذية ونحوه، لأنّه مصنوع من السعف عادة، وهناك أجربة من الجلد لحفظ ما يتساقط كالدقيق والسكر والأرز مثلا، والجمع أجربة وجرب؛ واشتهر الجراب في عمان بحفظ التمر خاصة فيه؛ وتحكي الأسطورة أن رجلاً أحضر مؤونة كبيرة - أكبر مما أعتادت الزوجة عليه - من الأرز والدقيق والتمر والسكر ..إلخ وخزنـَّها في البخار و(البخار) هو المخزن الذي تحفظ فيه المؤونة (القوت) وما يدخر منه - استغربتْ الزوجة لهذه المؤونة الكبيرة، قائلة ما شاء الله ما كل هذا؟ قال الزوج هذا لرمضان .. وكلما أحضر جراباً جديدًا تسأله فيقول هذا كله لرمضان لا تمسيه .. أي لا تقربي منه، وسافر الزوج سفرًا قصيرًا.. ذات يوم سمعتْ الزوجة رجلاً ينادي آخر: يا رمضان يا رمضان، خرجتْ المرأة مستفسرة ..هل أنت رمضان؟ قال الرجل: نعم. قالت المرأة : تعال إذن وخذ جرابك وأعطته كل خزين المخزن.. قائلة: زوجي أوصاني أن لا ألمس شيئاً من حاجتك.. فخذ يا رمضان جرابك. هذا المثل أو الأسطورة تذكرته وأنا أشاهد طابورا عظيما؛ بل طوابير طويلة تسوق أمامها قطيعاً من العربات؛ واستغربتُ الظاهرة خاصة وأن رمضان يأتي كل عام ولا يطلب منِّا إلا أقل القليل، لكون الصيام صحة (صوموا تصحو) ولكون الصائم لايستطيع أن يفتح فمه للأكل كثيرًا، لأنّ المعدة التي صامتْ عن الطعام طوال اليوم عفَّت عن استقبال الطعام بكميات كبيرة، أو كما هو متعارف عليه في أيام الفطر، كما أنّ الجو القائظ هذه الأيام لا يسمح إلا بكميات كبيرة من السوائل سواء أكانت شوربة أو عصائر، ومع كثرة النصائح الدينية والصحية، وكثرة رسائل التوعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، إلا أننا لا نفعل إلا ما اعتدنا عليه من عادات هي للضر أقرب منها للصحة، ومن ثم فقد تضاعفت ظاهرة الطوابير بشكل لافت.. فكرتُ ماذا أفعل وأنا لدي عربة واحدة متواضعة بين العشرات المحملة تلالاً من البضائع؛ وربما لن يأتي دوري إلا بعد ساعات من الانتظار .. حقيقة فضلتُ الانسحاب المأمون وهربتُ تاركة العربة بما فيها - واعترف أنّ هذا سوء تصرف منِّي - لكنني شعرتُ بملل غريب وهذا ما حصل .. ثم ذهبتُ إلى سوبر ماركت أكبر لعل الزحمة تخف في اتساع المساحة فما أن اقتربتُ من المدخل حتى رأيت ما هالني، إن الأمر هنا أسوء من سابقه، وهكذا تنقلت بين المحال التجارية لأجد الحال ذاته، يا ترى ما الذي حصل للناس؟ لم اسمع بقدوم جونو آخر أو لا قدر الله محنة ما في طريقها إلينا؟!! ثم تذكرتُ أنها تظاهرة رمضان السنوية؛ لقد كنتُ أعتقد أن الخليج المرفه المنعم هو فقط صاحب هذه الظاهرة لكنني حضرتُ رمضان في أكثر من دولة عربية فوجدتُ الأمر لا يختلف عنّا في الخليج قلتُ في نفسي .. الله على عناصر الوحدة والترابط في وطننا العربي سبحان الله في كل شيء نحن واحد ومتفقون... إلا في (السياسات) لا أدري لماذا في هذه النقطة فقط تتفرق بنا السبل لحد التناطح والحروب، وتتشتتْ الآراء لدرجة التناقض.. وعجبي!! ما علينا لنعد إلى رمضان ..

لقد عرف التاجر المواطن أو الغريب، بخبراته المتراكمة عن هذا الشهر الفضيل الذي حولناه إلى شهر أكل وأكيل، وتسمين القطط والكلاب الضالة التي عرفت أن صناديق القمامة تصاب بالتخمة هذا الشهر، وعرف التاجر أننا شعوب لا يجدي النصح فيها ومن ثمّ فقد تفنن التجار فينا بتقديم عروض رمضانية قبل رمضان بشهر أحيانًا، وفي كل مكان، ولا يبيع علبة واحدة بل يدهشك بأربع ست علب مع بعضها البعض، وهنا استغلال سيئ لبيع مالم يبع السنة الماضية، فتلبيس الطواقي للسنين جائز في شرع الغشاشين، مع بعض التكحيل والزركشة والتحايل على التواريخ، وللحق لا نستطيع أن نظلم الدولة هنا، فهيئة حماية المستهلك رئيسا وموظفين لا غبار عليهم في الهمة والنشاط، وأداء الواجب الوظيفي، بل يستحق كل منهم مكافأة التفاني في الخدمة، لكن عدد الموظفين المحدود وكثرة المحال الغذائية الاستهلاكية الكبير منها والصغير، لن يجعلهم قادرين على المتابعة التامة، (فما يقدر على القدرة إلا ربّ القدرة) وفي غياب الضمير وغياب التربية السليمة لدى التاجر، تحدث تلاعبات جسيمة، فالتحايلات وتوظيف الذكاء السلبي أكبر من كل الجهود، إنه الغش زعيم لواء التخلف في العالم الثالث لغياب الضمير الذي هو في حالة مستتر باستمرار، رغم الحديث النبوي الصريح (من غشنا فليس منّا)، ويهزون رؤوسهم، بل يقنعون أنفسهم، لكنها ضرورات العيش يارسول الله، وربك العفو الغفور، الرحمن الرحيم، وكثيرا ما يحدث نفسه، سأذهب للحج بعد عام لاغتسل من الذنوب، إن شاء الله، ويذهب لكنه يعيد السيرة الغشية الطيبة فمن شبَّ على شيء شاب عليه ...

ونعود للطوابير المذهلة، ترى ألم نسأل أنفسنا لماذا هذه الطوابير ؟ هل ستطير الحاجة من المحلات التجارية ؟ هل ستنفذ البضاعة من المحال ولن تنزل مرة أخرى!!! هل، وهل، وهل .. والجواب سيكون لدى الجميع إنه رمضان، ورمضان والله العظيم بريء مما نحمِّله إياه من حمولة تسيء لنفحات هذا الشهر الروحية، ترى هل فكرنا بأهلنا في غزة، وأهلنا في الأرض المحتلة بشكل عام ؟ وأهلنا في العراق الدامية وفي سوريا الجريحة النازفة في الوطن، وفي الغربة وفي اليمن المتصارع عليه دون مراعاة لحرمات الناس وحرمات الأشهر الفضيلة، وفي الصومال، وفي أماكن العالم المتناثرة الفقيرة وهي كثر، والله لو فكرنا لثوانٍ لاختصرنا هذه العربات الثقيلة التي تمشي الهوينا كأنها امرأة أثقلت بحملها في أواخر شهورها وتثاقلتْ حركتها أو كأنها النوق ذات الحمولة الثقيلة التي قالت فيها الملكة الزباء (زنوبيا) :

ما للجمال مشيهن وئيدا / أجندلاً يحملن أم حديدا

ثم اتضحتْ الحكاية أن الصناديق تحمل رجالاً لدخول القصر والقضاء على من فيه من حراس ثم الانقضاض على الملكة وحاشية الحكم . لكن للآن لم تتضح حكاية العربات الممتلئة أكثر مما ينبغي،

صحيح رمضان كريم، ولكن كرم رمضان روحي أكثر منه مادي، رمضان كريم في الرحمة في المغفرة في طاعة الله ؛ كريم في التراحم والتواصل كريم في الرقي والأخلاق كريم في التعاطف مع المساكين ومعونة المحتاج والفقير وإدخال البهجة على قلوب الجميع، فرمضان قد أخذ جرابه وكل مؤونته من جدتنا مبتسما من غفلتها وطيبتها من زمان طويل وكل سنة وأنتم بخير.. تعطون رمضان حقه ويعطيكم جمالياته وروحانيته .

همسة موجعة: كثر المفتون في أيامنا هذه وجلهم لا يملكون من الفتوى سوى عقول فارغة وأصوات ذات ضجيج، قال بعضهم لا تقولوا رمضان كريم، لماذا يا سيدنا المفتي، لأنّ الكريم هو الله، وقولكم هذا نوع من الشرك، ياسيدي الفقيه هناك مجازات في اللغة، من هو مثلك ربما لم يسمع بها تجيز للفظ أن يؤتي أكله على مئات المعاني والأساليب، خاصة في لغتنا العربية الثرية جدا جدا في مناخات مجازها وصيغها وأساليبها، ياسيدي الفقيه: لا تضيقوا ما اتسع على الناس، وتضيقوا عليهم معايشهم، بصراحة الأمور ما ناقصتكم، الدنيا ضاقتْ علينا بما رحبتْ من أحداثها العجيبة، ومن فتاويكم الأعجب، لقد وسعها الله علينا وضيقتوها بفتاويكم، ونحن اتباع دين يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولاتنفروا، وسنظل نردد رمضان كريم. أعاده الله على الجميع كرما وعبادة وسخاء وعطاء وصدقات.

تعليق عبر الفيس بوك