لمن لا يعرف كوثر

أسماء القطيبي

كوثر الأربش، كاتبة وصحفية سعودية، وعضو في مجلس إدارة جمعية الثقافة والفنون السعودية، وهي واحدة من الذين فقدوا أبناءهم في التفجيرات التي طالت مساجد المملكة مؤخراً لأسباب طائفية. بعد وفاة ابنها قامت كوثر بنشر بيان دعت فيه إلى تكاتف المجتمع إزاء أعمال العنف، ونبذ الطائفية، والوقوف يدًا واحدة لتخطي هذه الأزمة التي تستهدف أمن البلاد. وفي البيان نفسه عزّت الأربش والدة قاتل ابنها، ومما قالته لها في البيان: "أنا على معرفة تامة أن قلبكِ الآن كقلبي. حزين وباكٍ"، مظهرة الكثير من النبل والتعاطف الإنساني الفريد.

أثار هذا البيان الكثير من اللغط، كونها طريقة غير معتادة - في مجتمعاتنا العربية خصوصاً- في التعبير عن الحزن والفجيعة. فقد كان بياناً متزنًا وعقلانيًا، بعيدًا عن أيّ رغبة في الانتقام أو الثأر. اتبعته كوثر بالظهور في عدة منابر إعلامية لا للتباكي، بل للحديث عن القضية التي كان فيها ابنها أحد الضحايا. مما جعل البعض يرتاب من هذه القوة الاستثنائية والصبر الجميل الذي بدت فيه كوثر. وصل الأمر إلى أن هناك من شكك في قوة علاقتها بابنها، وعندما سئلت كوثر الأربش في لقاء تلفزيوني عن ردها على هذه الاتهامات أجابت :"لا يُمكن للأمومة أن تبرر. أنا اتساءل ما مبرر هؤلاء الذين يحاولون أن يسلبوني أمومتي؟ إن لا أخلاقيتهم هي التي بحاجة للتساؤل وليس أمومتي. هذا الأمر يخالف المنطق والإنسانية، وخصوصاً في حالة ثكل وفقد كالتي أمر بها ".

كوثر الكاتبة التي طالما تحدثت عن الوحدة والعمل من أجل نهضة الوطن، ودعت إلى عدم التفرق لم تكن ترفع شعارات فارغة، بل كانت تكتب عن هاجس حقيقي تؤمن به وتعيشه وتحرص على تطبيقه في حياتها. وكان تعاملها مع موقف وفاة ابنها محمد أكبر إثبات على أنّ قضية كوثر الكاتبة لم تكن قضية شخصية، أو قضية جماعة من الناس أو طائفة بعينها، بل كانت قضية مجتمع بأكمله. وكان من الصعب أن تفصل كوثر الكاتبة عن كوثر الأم في موقفها من الحدث. كانت فخورة بأبنها، حزينة لفقده، ولهذا لم ترد أن يفرغ حضن أم أخرى من ابنها في أعمال إرهابية بغيضة، ليس لها ما يبررها سوى الجهل وعدم القدرة على التعايش وتقبل الآخر . إن الأربش لا تذكرني سوى بشخصيات تاريخية عظيمة تم اختبارها في مبادئها فثبتت عليها، ووحدها هذه الأسماء خلدها التاريخ، وأحسب أنه سيضم اسمها إلى أسمائهم كرمز تاريخي يستحق التذكر والإشادة.

يا ترى كم شخصا لدينا ككوثر يعتنق فكرة يستعد للدفاع عنها ولو فقد لأجلها أغلى ما يملك؟ كم كاتب يحس بالمسؤولية تجاه قلمه فلا يكتب إلا ما يؤمن به؟ كم مثقف سيصمد أمام اختبار لمبادئه التي لا يترك مجلسا إلا وتحدث فيه عنها؟ فالإيمان بالفكرة -غير المعتادة خاصة- يحتاج إلى استعداد كامل للمواجهة ويحتاج إلى تضحية، لاسيما وأن هناك من الأفكار ما يُهدد طمأنينة البعض على كراسيهم الوثيرة، مما يجعلهم في حالة استنفار دائمة للقضاء على من يخالفهم ويزعزع شعبيتهم عند الناس. فكوثر كانت على علم بأنها "دخلت عش الدبابير" لكنها لم تكن تتوقع على الأرجح أن الثمن سيكون فلذة كبدها في عمره الصغير. لم تتوقع أن الفكرة ستقارع بغير ضدها. وأنها ستتهم في أمومتها وهي ترتدي السواد حدادا على فقيدها.

لمن لا يعرف كوثر، هي الأم التي جعلت من موت ابنها المشرف حافزا للمضي قدما في قضيتها لتجنب أمهات أخريات ما لحقها من ألم وثكل، وهي المرأة التي ظهرت بموقف أخجل رجال الأسماء المستعارة الذين يكيلونها بالشتائم لكونها لا تنتمي لمذهبهم، أو لكونها فقط اختارت ألا تؤمن بكل ما ولدت وتربت عليه. وهي الكاتبة التي دفعت ثمن قلمها بدمها، ورغم ذلك لم تزدد إلا تأكدا من أنها في الطريق الصحيح، بل لعلها في أول الطريق بينما التيار يسير عكسها. إنها نموذج صادق في حين أن كثيرا من الأقنعة المزيفة أسقطتها المصالح الشخصية، ولربما يمر وقت طويل قبل أن نرى من يشبه كوثر الأربش أخلاقا ووعيا وموقفا.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك