إشكاليَّة الاعتراف بالآخر وثقافته!

عبدالله العليان

يتحدَّث الغربُ الآن -وبتعالٍ- عن أنَّ الحديث عن الهويات الثقافية والخصوصيات الذاتية أصبح كلاماً بالياً عفا عليه الزمن، ولا يمكن الالتفات إليه كطرح يُعتد به وأخذه في الحسبان.. إنَّ من يرفض تطبيقات العولمة وعاداتها الاستهلاكية إنما يريد رفض بضائع المدنية الحديثة ووسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات التي دخلت البيوت، ومجالات العمل والثقافة والحياة الاجتماعية، ومن مظاهرها تداخل عناصرها وتياراتها وتفاعلها مع بعضها الآخر؛ بحيث لم تعد التجارة والتكنولوجيا حرة وعالمية فحسب، بل والإنتاج والاستهلاك، وأصبح الحديث عن "الثقافة المصنَّعة" هدفًا من أهدافها الجديدة. ولا شكَّ أنَّ العصرَ الراهنَ هو عصر الهيمنة والقوة الاقتصادية بلا منازع بما تمثله من انفتاح في التجارة والنشاطات الأخرى المهمة...وغيرها من الجوانب، إنَّه مجتمع المعلومات العولمي المتشابك، وهذا بدوره سوف يجر إلى تغير اجتماعي ونفسي يسير بمعطيات مختلفة عما الفناها من قبل المتمثلة في زيادة القدرات الوظيفية للأنساق الثقافية العالمية من خلال تطور تقنيات الاتصال الجديدة، كالإنترنت والكمبيوتر والجوال...وغيرها من الوسائل المعلوماتية الحديثة، وهذه الوسائل سيكون لها الأثر في تشكيل الوعي لدى المتلقين، خاصة النشء الذين بتلقون هذه الوسائل دون أن يُدركوا أبعادها الفكرية أثرها الاختراقي علي العقل والوجدان العربي.

وهذه التقنية أيضاً سوف تدخل كمتغير فاعل ومؤثر في عملية التنشئة الاجتماعية؛ فمن خلالها لم يعد النشء يستبطن الثقافة المحلية -كما يقول الباحث عبدالقادر عرابي- بل ستدخل في تشكيل ثقافات أخرى؛ فالثقافة الوطنية -ثقافة الدولة والمجتمع- ستواجه الثقافة العالمية؛ بحيث أننا نجد أنفسنا أمام ثقافتين وعالمين مختلفين أو عوالم ثقافية مختلفة، لا تتفاعل مع بعضها البعض بل يسود بعضها البعض، وسوف تتدخل المؤسسات الأجنبية -من خلال شروطها- في عالم حياتنا، وتحاول السيطرة عليه واستعماره أو على الأقل تشكيله، وسيقود هذا التدخل إلى مشكلات وتحديات تربوية ونفسية تهدد عمليات التفاعل المفترضة بين الثقافات.

وإذا كانت الدولة الوطنية قد احتفظت بخصوصيتها الثقافية إلى حد ما، فإن مجتمع المعلومات قد ضيق هذه الخصوصية والهوية الذاتية، إذا لم يكن ينذر بالقضاء عليها؛ فالدولة لم تعد في المستقبل هي المصدر الوحيد للمعلومات، كما أنه من المتعذر عليها السيطرة على تدفق المعلومات الهائل وضبطها.

وإذا كانت التنشئة الاجتماعية عبَّرت في الغالب عن علاقة مباشرة بين شخصين أو أكثر، فإنَّ التنشئة اللاشخصية -كما يقول عرابي- تزداد من خلال تطور تقنيات الاتصال الجماهيري، وتعتبر وسائل الاتصال العالمية وسيلة من وسائل التنشئة الاجتماعية الجديدة التي صارت تنافس الوسائل الأخرى كالأسرة وأولياء الأمور والمدرسة والبيت...وغيرهم من وكلاء التنشئة الاجتماعية، وقد تكون أحياناً أكثر أثراً منهم على الطفل، إذا ما ازداد تعرض الطفل لها، ومع أنَّ الدراسات حول هذه الظاهرة لا تزال قليلة جدًّا في مجتمعنا العربي، إلا أنَّ أثرها واضح في بناء الشخصية وعالم الطفل ومفرداته اللغوية، وتحصيله الدراسي وفعله الاتصالي وسلوكه الاجتماعي، وآرائه وقناعاته ومواقفه وسلوكه الاستهلاكي؛ فالساعات الطويلة التي يقضيها الطفل في مشاهدة تقنيات الاتصال العالمية تجعل منها مصدراً مهمًّا لإمداده بالمعلومات ولتكوين اتجاهاته ومعتقداته، وقد تحوله إلى مجرد مستهلك سلبي، الشيء الذي يقف حائلاً دون تطوير قدراته وطاقاته الإبداعية.

لقد كانت الدولة في الماضي -إلى حدٍّ ما- هي المصدر الوحيد للمعلومات. أما الآن، فإنَّ تطور تقنيات الاتصال ستجعل الثقافة العالمية تنساب عبر الحدود؛ الأمر الذي يجعل من المتعذر السيطرة على تدفق المعلومات الهائل ومراقبتها. أما التحديات التي تترتب على العولمة الثقافية بالنسبة للمجتمع فخطيرة جداً، ذلك أن المجتمع يعرف نفسه من خلال الثقافة والتاريخ، وتكوين مرجعية ثقافية، تشكل أساساً لشعور الجماعة والنسق القيمي. وهذا سيشكل تحدياً كبيراً من خلال الاختراق الثقافي وتعدد العوالم الثقافية، وانسياب المعلومات في اتجاه واحد هي التي تضع الرأي العام وتؤثر في تشكل وعيه، لكن البعض يُقلل من خطر العولمة ويعتبر هذا التدفق المعلوماتي ظاهرة إيجابية في معظم أنساقها الثقافية، ويمثل جانباً مهمًّا من انفتاح الثقافات العالمية على بعضها البعض.

... إنَّ هذه المقولات التي تسوّق لثقافة العولمة، وتبشر بمزاياها والتقليل من مخاطرها، ليس مقنعاً في أغلب جوانبه بالنظر إلى الكثير من الآراء والأفكار التي يطرحها سماسرة العولمة نفسها. وللتدليل على ما نراه مخالفاً حول ما قيل آنفاً أن هناك أصواتاً في الغرب قوية ومؤثرة تتحدث عن مخاطر العولمة في جانبها الثقافي أيضاً.. ناهيك عن البعد الاقتصادي ومشاكله في أوروبا نفسها، وما حدث في سياتل...وفي غيرها من المدن الأوروبية منذ سنوات أكبر مثال على مدى الرفض والقلق من مخاطرها الكثيرة.

وأصدق مثال على ذلك أنَّ فرنسا لا تزال إلى الآن تنتقد العولمة الثقافية والتي تسميها "الإمبريالية الثقافية الأمريكية" وتبذل جهوداً كبيرة للمحافظة على "الفرانكفونية" في فرنسا، وفي بعض الدول الإفريقية. ومما قاله وزير ثقافتها في أحد المؤتمرات الدولية مهاجماً الولايات المتحدة: إنَّ تلك الدول علمتنا قدراً كبيراً من الحرية، ودعت الشعوب إلى الثورة على الطغيان، أصبحت لا تملك اليوم منهجاً أخلاقياً سوى الربح، وتحاول أن تفرض ثقافة شاملة على العالم أجمع، ومضى يقول: أن هذا هو شكل من أشكال الإمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضي، بل يصادر الضمائر ومناهج التفكير وطرق العيش.

ومن أجل ذلك، رفضت فرنسا -وهي إحدى الدول الكبرى الصناعية في العالم، كما هو معروف- أن توقع على الجزء الخاص بالسلع والمواد الثقافية في اتفاقية الجات، وهي تشمل: السينما والتلفاز والفيديو وما يشابهها، وقد نجحت فرنسا في الحصول على تأييد 46 دولة فرانكفونية في محاولاتها الحصول على "استثناء ثقافي" يشمل تلك السلع والمواد، وقد أدرج في الاتفاقيات الدولية الخاصة بحرية التجارة "الجات".

فإذا كان موقف فرنسا -بلد الحرية والنور والإشعاع الثقافي في الغرب- رفض ثقافة الولايات المتحدة، واعتبرها إمبريالية ثقافية. فماذا يجب أن يكون موقفنا نحن من هذا الاكتساح الثقافي والاقتصادي...وغيره من الأبعاد الأخرى في هذا الإطار؟

وإذا كانت العولمة الثقافية تعني هيمنة ثقافية واحدة بأفكارها وقيمها وسلوكياتها، وإزاحة الثقافات والهويات الأخرى الذاتية، فما جدوى الحديث عن تعددية الأفكار والثقافات الإنسانية؟ وماذا بقي من شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان وهما من أسس الحرية الثقافية والفكرية في ظل هذا التحول المعادي للتعددية الثقافية؟ وإذا كان البعض يردِّد مقولات تقلل من محاذير ومخاطر العولمة الثقافية، والحديث عن التبادل والتفاعل الثقافي بين الثقافات؛ من خلال تقنيات الاتصال...وغيرها من الوسائل الحديثة، فإننا نعتقد أنَّ هذه الآراء تفقد مصداقيتها كما قلنا بالتدريج، ذلك أن التبادل الثقافي بين ثقافات غير المتكافئة محسومة سلفاً، وعدم التكافؤ يلغي عملية التفاعل والتبادل المفترض بين ثقافات الشعوب، وأن عدم الاعتراف بالتعددية الثقافية في إطار العولمة ربما يمهد الطريق إلى حضارات وثقافات مغلقة، والانغلاق ربما يجر إلى انقسام الحضارات، وهذا الانقسام سيعزز للأسف نظرية هنتنغتون في "صدام الحضارات" التي تدَّعي أن فكرة التصادم والانقسام في المستقبل لن يكون أساسه الأيديولوجيا، بل الثقافات والهويات عند خطوط التماس هذه الحضارات!! لكننا نعتقد أن هذا ليس صحيحا، لأنه ضد واقع التعايش والتفاهم والتواصل، الذي هو أصل الحضارات الإنسانية، منذ ظهورها بداية التاريخ.

فهل تعي الإنسانية هذه المشكلات المقبلة؟ ومن ثمَّ العمل معاً على سيادة الاعتراف بالآخر المختلف، واحترام ثقافته وهويته في ظل التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟

تعليق عبر الفيس بوك