التقاعد المبكر .. حق وظيفي يوفر الشواغر للشباب رغم خسارة الكفاءات والأعباء المالية على النظام التأميني

الحمداني: رتابة الوظيفة الحكوميّة والرغبة في تأسيس عمل خاص بصدارة أسباب التقاعد المبكر

العريمي: تراجع الدخل الشهري والشعور بالملل وفقدان الزملاء.. مشكلات ما بعد التقاعد

الوردي: التطوير والتدريب المستمر للموظف يشجعه على مواصلة العطاء

القصابي: التنقل الدائم في وظيفتي دفعني للتقاعد المبكر

العبري: مزايا القوانين الجديدة تحفز الشباب على طلب المعاش التقاعدي

إتاحة الفرصة أمام الشباب أبرز الإيجابيات.. وفقدان الخبرات التراكمية بصدارة السلبيات

التوجه نحو التقاعد المبكر يهدف للدمج بين "الحسنيين".. معاش وراتب من العمل الجديد

النظام التأميني يتحمل عبء انقطاع سداد الاشتراكات واستثمار عائدها بعد تقاعد الموظف

60% النسبة المفترضة لخفض المعاش عند التقاعد في سن الـ45

قدامى الموظفين منوط بهم نقل الخبرات والمهارات إلى العاملين الجدد

الرؤية - سعاد الوهيبية- أحمد الشماخي

اتفق متقاعدون وخبراء على أن التقاعد المبكر حق وظيفي للموظف أقره القانون بهدف منحه الفرصة للتفرغ في عمل خاص أو لمجرد الاستقرار بعد سنوات عمل طويلة، مشيرين إلى أن التقاعد المبكر يحمل الكثير من الإيجابيات كما يتضمن سلبيات أخرى.

وأضافوا- في استطلاع لـ"الرؤية"- أن الإيجابيات تتمثل في توفير شواغر وظيفية للشباب الباحثين عن عمل، لكنه في المقابل تفقد المؤسسة خبرة وظيفية استمرت لسنوات طويلة، علاوة على الأعباء المالية التي قد تترتب على انقطاع سداد الاشتراك، وهو ما يعود بالخسارة على النظام التأميني.

وقال مبارك خميس الحمداني، المتخصص في علم الاجتماع: "لابد أن نضع القضية المطروحة في إطار الدرس السليم للتعاطي معها وفي هذا الصدد فإنّه لا يمكننا اعتبار التقاعد المبكر مشكلة تواجه المجتمع العماني وبالتحديد في سياق النسق الإداري له، لكن إن صح القول يمكن التعاطي معها كظاهرة لها تداعياتها وأسبابها في ظل عدم وجود مؤشرات وأرقام واضحة وتفصيلية للقطاعات الإدارية التي تواجه هذه الظاهرة.". وأضاف الحمداني: "لو تعمقنا في القضية أكثر ومن خلال الملاحظة الذاتية أجد أن هناك ثمة قطاعات بات يتنامى فيها صعود هذه الظاهرة قياسا بتنامي العوامل السوسيولوجية والتنظيمية المحفزة لها داخل إطار القطاع أو المؤسسة، ومن هذه القطاعات قطاع التربية والتعليم".

وتابع أن الأسباب العامة للظاهرة قد تكون ذاتية، وهي عديدة؛ منها الحالة الصحية للفرد أو ارتباطه بمستوى طموح معين خارج مؤسسته أو قد يتعلق بظروف أسرية ومعيشية معينة أو أي ظروف قد تعتبر استثنائية، غير أن الأهم في هذا الإطار هو دراسة الأسباب والمحفزات من داخل المؤسسات، مشيرًا إلى أنه قد يكون مستوى الاهتمام بالموظف متدن داخل المؤسسة، وقد يكون من الأسباب عدم وجود إمكانية للترقي في السلم الوظيفي، وقد تكون طبيعة ورتابة المهنة والروتين اليومي المتكرر دافعا لتقاعد الموظف في سن مبكر".

ومضى الحمداني قائلا إن هناك أسبابا أخرى للتقاعد المبكر، منها طبيعة العلاقة بين أرباب العمل والعاملين والتي تعد سببًا محفزًا للتقاعد المبكر، ومن الأسباب الأساسية أيضًا عدم وجود وسائل لتطوير الذات والمهارات والقدرات الوظيفية ضمن إطار بيئة العمل سببا من الأسباب. وقد يكون عدم وجود الحوافز أو المكآفات أو على الأقل تقدير الذات في سياق المؤسسة من أهم أسباب هذه الظاهرة.

وأوضح الحمداني أنه "يمكننا الاستعانة بحالات مشابهة في المنطقة من الدراسات التي أجريت حول هذه الظاهرة في ظل عدم توفر أدب نظري وبحثي حولها، نظراً لاستحداثها في سياق مؤسسات القطاع الإداري في السلطنة؛ حيث يشير عدد من الدراسات التي جرت في المنطقة إلى كون عوامل ضغوط العمل هي إحدى الأسباب الأساسية لهذه الظاهرة، إضافة إلى عدم اهتمام المؤسسات بأهل الخبرة قدر اهتمامها بالنظام الرتيب للعمل والمكافآت والتقدير القائم في المؤسسة، علاوة على أن مجتمعنا العماني والمجتمعات الخليجية بشكل عام من المجتمعات التي ينشط فيها الحراك الاجتماعي بشكل واسع، سواء في شقه المهني أو الجغرافي وهذا يعد عاملاً أساسيا من عوامل بروز الظاهرة.

وأكد الحمداني إمكانية التصدي للظاهرة، قائلا إن من أهم الخطوات الإجرائية التي يمكن التعامل بها أولاً مما يتوجب تفهم الظاهرة هو التعامل مع ظاهرة التقاعد على أساس أنها ظاهرة إيجابية وسلبية في نفس الوقت، فهي إيجابية لأنها تسهم في التوظيف وإحلال كوادر شابة للعمل، وقادرة على مسايرة مستجدات العصر. وأضاف: "يمكن اعتبار الظاهرة سلبية لأنها قد تسهم في فقد خبرات إدارية متميزة المسألة الأخرى المهمة والتي اعتبرها شخصيا الركيزة الأساسية لتفادي هذه الظاهرة وظواهر أخرى لا تحصى هي مسألة الارتقاء بأنظمة العمل وتجاوز الشكل البيروقراطي إلى أشكال أكثر فاعلية وتواكبية مع معطيات العصر ومع معطيات الإنسان في القرن الواحد والعشرين، ومن الأمور المهمة أيضا المحاولة الجادة لاستثمار وتعزيز العوامل التي لا تدفع الأفراد إلى التقاعد من خلال تحسين بيئة العمل الإداري واتباع نظام للعلاقات المهنية أكثر مرونة كالعلاقات الودية، وكذلك تعديل الأنظمة الخاصة بالدوام والإجازات والمكآفات والتقديرات".

الظروف الصحية

لكن راشد بن صالح بن راشد العريمي وهو موظف إداري متقاعد بقوات السلطان المسلحة كان له رأي آخر، إذ قال إنّ السبب الذي دفعه للتقاعد هو ظرف صحي، لكنه أوضح أنه ترتب على ذلك آثار اقتصادية تمثلت في انخفاض الدخل الشهري والذي أدى إلى صعوبة في تغطية المصاريف الشهرية نتيجة لغلاء المعيشة، كما نتج عنه الشعور بالملل أحيانًا نتيجة لقلة العمل. إضافة إلى الشعور بالتقصير في خدمة البلد وفقدان عدد من أصدقاء العمل". وأضاف العريمي: "إذا ما استمرت هذه الظاهرة في التزايد سينتج عنها أعداد الأشخاص المتقاعدين، لكنه وفي الوقت نفسه سيتيح المجال لدخول كوادر وظيفية من الشباب الباحثين عن عمل إلى المؤسسة" .

وقال ناصر بن حميد بن ناصر الوردي، معلم سابق تقاعد من عمله بعد خدمة استمرت 25 عامًا إن من الأسباب التي دفعتني للتقاعد المبكر من العمل هو تباين الأجيال واختلاف الأعمار والثقافات بين الأجيال السابقة واللاحقة، وهذا يتطلب شخصاً يكون قادرا على الإلمام بتلك الثقافات وقريبا من اهتمامات وتطلعات الأجيال الحالية، وملما بالتقنيات الحديثة في مجال الاتصال، إضافة إلى التطور المتسارع في مجال التعليم خاصة التكنولوجي والتقني ونظريات التعليم الحديثة. ويرى الوردي أن هناك حاجة لمزيد من الاهتمام بالتطوير والتدريب المستمر للعاملين في قطاع التعليم ووضع هذا الأمر من ضمن الأولويات، إضافة إلى مزيد من التواصل المباشر بين قمة الهرم التعليمي وقاعدته، وإيلاء الكفاءات والقدرات الخاصة وحملة الشهادات العليا المكان المناسب الذي يستطيع من خلاله المساهمة بفاعلية في خدمة وتطوير العمل التنموي في السلطنة. وتوجه الوردي بعد التقاعد المبكر إلى الاهتمام بالمجال الاقتصادي عن طريق إنشاء ورشة نجارة وإدارتها بشكل كامل، بالإضافة إلى الأعمال التطوعية التي أسهمت في تطوير القطاعات التنموية في الدولة، وذلك بسبب الرغبة التي وجدها الوردي في نفسه والتي تدعوه إلى ممارسة نشاطات جديدة.

أما عن آثار التقاعد المبكر، يذكر الوردي عددا منها، وتتمثل في آثار إيجابية وهي دخول كوادر جديدة في المؤسسات الحكومية عمومًا والتعليمية خصوصا، ومسايرة التطور المتسارع الذي يشهده عالمنا المعاصر في كافة المجالات التنموية، وتقليل الأعداد الكبيرة من الباحثين عن عمل، إضافة إلى تقليل الأعباء المالية على الحكومة من حيث رواتب قدامى الموظفين المتقاعدين. لكنه لم يغفل الآثار السلبية والتي قال إنها تتمثل في خسران الكفاءات وأصحاب الخبرات الذين يسهمون بشكل فاعل في تنمية وتطوير المؤسسة، إضافة إلى هجرة الكفاءات التي تؤدي إلى ترهل العمل في المؤسسة أحيانًا.

بينما قال جعفر البجالي إن السبب الذي دفعني للتقاعد في سن مبكر هو الظرف الصحي، وهذا ما أدى إلى ظهور عدد من الآثار السلبية منها والإيجابية. وأوضح أن آثار التقاعد المبكر تتمثل في تفرغ المتقاعد لحياته الخاصة ومزاولة أي نشاط تجاري والتفرغ التام لمتابعته، كما أنه يستطيع أن يقضي وقتا أطول مع عائلته، كما أن التقاعد يمنح الفرصة للشباب الباحثين عن عمل وإفساح المجال لهم للحصول على وظيفة.

لكن البجالي أشار إلى السلبيات، وأوضح أنها تتمثل في اضطرار المتقاعد للبحث عن مصدر آخر للدخل، خاصة إذا ما ارتبط الأمر بسداد قرض لبنك أو جهة أخرى مثل شركات تمويل السيارات وغيرها، كما أن التعامل غير المرضي مع العامل داخل المؤسسة، خاصة إذا كان مخلصا في عمله قبل أن يتقاعد، هو ما يدفعه إلى طلب التقاعد في سن مبكرة، وقد يلجأ المتقاعد أحيانا إلى السفر لدولة أخرى بحثا عن وظيفة يستطيع من خلالها توفير مطالب الحياة.

التنقل الدائم

وقال حمود بن حماد بن حمد القصابي إن من الأسباب التي دفعتني للتقاعد المبكر من وظيفتي كمعلم هو عدم الاستقرار في مدرسة واحدة بسبب إجراءات النقل من مدرسة إلى مدرسة أخرى والتي يتم اتخاذها بدون أسباب مقنعة، لذا اتجهت بعد التقاعد إلى أنشطة السمسرة وبيع وشراء الأراضي في حدود الولاية حسب أوقات الفراغ. وأضاف أن عدم التحفيز ومساواة المعلم الموظف الأقدم بالمعلم الذي يتم توظيفه في وقت لاحق في عدد الحصص والأنشطة التي تعطى للمعلمين سواسية دون اعتبار فارق العمر والخبرة، كما أنه لا يوجد تحفيز للمجيدين وإنما يتساوى الكل في التكريم والترقيات. ويذكر القصابي آثار التقاعد المبكر، فيقول إن التقاعد له أثر اقتصادي وذلك من خلال فارق الدخل الشهري ومكافأة نهاية الخدمة، كما أن له أثر نفسي يتمثل في شعور المتقاعد بالملل إذا فشل في استغلال وقت فراغه الاستغلال الأمثل.

التأمينات الاجتماعية

وقال شيخان بن زاهر بن سالم العبري (استشاري دراسات إكتوارية بالهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية) إن من أهم الأسباب التي تدفع الشباب للتقاعد في سن مبكر هي القوانين التي وضعت في لائحة أنظمة التقاعد والتأمينات الاجتماعية التي تسمح للموظفين وتعطيهم الفرصة للتقاعد في سن مبكر، وذلك من خلال المزايا التي توفرها بعض القوانين التي أتاحت للمؤمن عليهم المنضوين تحت مظلتها إمكانية الحصول على معاش تقاعد مبكر شريطة إكمال عدد محدد من سنوات الاشتراك وبعضها وضع حدا أدنى لسن التقاعد، ومن ثم التوجه إلى الأعمال الحرة أو الالتحاق بإحدى منشآت القطاع الخاص الذي يستوعب أعداداً كبيرة من المتقاعدين من القطاع الحكومي.

وأضاف العبري أنه وفق قانون التأمينات الاجتماعية بالسلطنة، فإنه يسمح لأي موظف بالحصول على معاش تقاعد مبكر بعد إنهاء 20 سنة في الخدمة للرجل و15 سنة للمرأة، مع العلم بأن الحد الأدنى لسن التقاعد المبكر هو 45 سنة، والسن الطبيعي للتقاعد للرجل 60 سنة، أما المرأة فإن سن 55 عاما هو السن الطبيعي للتقاعد.

وتابع العبري أن من أسباب توجه العاملين للتقاعد المبكر هو البحث عن فرص عمل ومصدر دخل آخر يتيح لهم الجمع بين المعاش التقاعدي من النظام التأميني، والأجر من جهة العمل الملتحق بها بعد تقاعده، كما يعتبر عامل عدم الرضا الوظيفي من بين الأسباب التي تدفع العامل إلى التقاعد المبكر، كما أن توجه بعض الجهات أو المؤسسات نحو إحلال كوادر وظيفية جديدة محل العاملين الذين أمضوا مدد خدمة طويلة، قد يدفع بهذه الجهات إلى تشجيع هذه الفئة على الخروج مبكرا، والحصول على معاش تقاعدي. وأوضح أنه يتعين وضع موازنة في عملية تدريب الكوادر الوظيفية ونقل الخبرة وإعدادها لتحل محل المتقاعدين.

وأكد العبري أن هناك تأثيرا للتقاعد المبكر على أنظمة التأمينات الاجتماعية وصناديق التقاعد، ممثلة في الكلفة الإضافية التي تتحملها هذه الأنظمة، بسبب حصول المؤمن عليهم على معاش في سن مبكرة يترتب عليه صرف هذا المعاش لمدد أطول، عما لو اقتصر صرف المعاش في سن التقاعد الطبيعي. وتابع أنه من جهة أخرى، فإنّ النظام التأميني يتحمل عبء انقطاع سداد الاشتراكات (وعوائد استثمارها) من سن التقاعد المبكر إلى سن التقاعد الطبيعي.

وتابع العبري أنه بالنظر إلى ما يشكله التقاعد المبكر من كلفة إضافية على النظام التأميني، فقد تضمن قانون التأمينات الاجتماعية وضع نسب تخفيض لمعاش التقاعد المبكر تفاوتت في مقدارها حسب السن عند الخروج للتقاعد، مشيرًا إلى أنّ هذه النسب تتراوح حاليا بين 7-30% للرجل وبين 6-25% للمرأة، بما يعني أن الحد الأقصى لتخفيض معاش التقاعد المبكر في سن (45) هو 30% للرجل و25% للمرأة.

وزاد العبري موضحاً أنّ الدراسات أثبتت أن نسب التخفيض المطبقة حالياً لا تعكس الكلفة الحقيقية لصرف المعاش في سن مبكرة؛ حيث أشارت هذه الدراسات إلى أنه إذا ما أراد النظام التأميني تغطية هذه الكلفة الحقيقية، فإنّ عليه رفع نسب التخفيض بشكل كبير تصل إلى 60% عند الخروج إلى التقاعد في سن 45، ومع ذلك، ارتأت الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية صعوبة تطبيق هذه النسب منذ البداية، على أن يتم مراجعتها بشكل دوري.

واستطرد العبري أن التقاعد المبكر ظاهرة موجودة في السلطنة والعديد من دول العالم، وهناك عدد من المؤتمرات تخصص جلسات حوارية لمناقشة الظاهرة ومدى تأثيرها على هذه الأنظمة التأمينية، مؤكدا أن التقاعد المبكر حق لكل عامل، خاصة عندما يقال إن التقاعد المبكر يتيح فرصة إحلال موظفين جدد مكان الموظفين الأقدم، الذين تقدموا لطلب تقاعد في سن مبكر.

غير أنه أكد أن التوازن في مثل هذه الأمور مطلوب؛ إذ إن الموظف الجديد في المؤسسة بحاجة إلى توجيه واكتساب خبرات ممن سبقه في الوظيفة، لذا فإن الموظف الأقدم قبل أن يتقاعد عليه أن يعي أهمية ما يمده من خبرة ومهارة للموظف الجديد، وذلك من أجل ضمان استمرارية جودة العمل داخل المؤسسة بل والسعي إلى تطويره كلما أمكن ذلك.

تعليق عبر الفيس بوك