العارف بالله برمهنسا يوغانندا

زاهر بن حارث المحروقي

إذا كانت وسائل الاتصالات الحديثة قد حققت قفزة كبيرة في مجال نقل المعلومات، إلّا أنها كشفت الكثير من عوار "المتشيّخين" الذين ملأوا ساحات التواصل بغثّهم، ليؤكدوا رأي الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- بأنّ بعض الدعاة "يملكون القدرة على اﻹ‌ماتة أكثر من اﻹ‌حياء"؛ فمن يتجوّل في موقع "اليوتيوب" ويشاهد ما يقوله هؤلاء قد ينفر تماماً من الإسلام، لأنّ بعضاً ممّا يقولونه لا يتماشى مع العقل والمنطق، هذا غير السباب والقذف والتكفير، وادعاء البعض منهم أنّهم ملكوا مفاتيح الله، وبيدهم أن يدخلوا هؤلاء الجنة ويخرجوا أولئك من النار، والأمَرُّ من ذلك أنّ بعض صفحات تويتر حفلت بنقاشات عقيمة عن الذات الإلهية، فوق ما يحتمله عقل إنسان، ممّا يدلّ على الخواء العقلي عند هؤلاء؛ فهل هم عرفوا أنفسهم أساساً حتى يتحدثوا عن الله سبحانه وتعالى..؟ وماذا قدّموا لله أو لدين الله غير إثارة الفتن؟ ثم بماذا أفاد هؤلاء البشرية؟ ألم يكن الأولى بهم أن يهتموا بالعمل والإنتاج وتطوير الصناعة والرقي في كلِّ شيء؟. هناك فريقٌ يتهم الآخر بأنه معطّل لصفات الله، وفريقٌ يتهم الآخر بأنه مجسِّم لله، وفريقٌ يتهم الآخر بأنه مشبّه لله، وكلُّ فريق يتكلم وكأنّ الله سبحانه وتعالى قد فوضه في ذلك؛ وهناك من لا يزال يثير قضية "خلق القرآن"، في وقت يشتكي فيه القرآن من الهجران، ولم يعد إلّا كتاباً يُتلى في العزاء، وزينة في المكتبات؛ فكانت النتيجة أن اتجهت الأمة بفضل أناس كهؤلاء إلى الاقتتال، لدرجة تفجير المساجد بمن فيها تقرباً لله سبحانه وتعالى، الذي جعلوا منه إلهاً دموياً متعطشاً للدماء والانتقام، وكأنه لم يخلق البشر إلّا ليدمرهم بأيديهم؛ في وقت يردد هؤلاء كلمة "الرحمن الرحيم" في اليوم الواحد كثيراً، ولكنه ترديدٌ بالشفاه فقط.

لقد نقل جلال الدين الرومي في ديوانه "المثنوي"، حكاية سيدنا موسى عليه السلام مع الراعي العاشق، الذي كان يتحدّث مع الله وكأنه بشر مثله، فكان يقول في مجمل حديثه: "إلهي يا من تصطفي من تشاء..أين أنت حتى أقوم بخدمتك.. أغسل لك ملابسك، اُهيىء لك الطعام وأغسل قدميك.. وإذا أردت أن تنام أهيىء لك السرير، وأمشط شعرك وأجلب لك الماء.. إلهي لقد عظم اشتياقي إليك، فلماذا تخفي نفسك عني"؟! وذات يوم سمعه سيدنا موسى فغضب عليه، وحذره من عاقبة هذا الكفر الصريح؛ فلما سمع الراعي ذلك، وكان يعلم بأنّ موسى نبيُّ، خاف وسكت، وابتعد وهو واجم وانقطع عن مناجاة الله؛ فعاتب الله سيدنا موسى، وقال له: ألم تعلم بأنّ لكلِّ إنسان طريقته في التحدّث معي؟ فقد كنتُ مسروراً من حديثه بتلك اللهجة، لأنّ حديثه كان نابعاً من قلبه وفطرته، ولم يتوصل عقله إلى ما توصلتَ إليه في عالم التنزيه والتقديس، أما الآن فقد انقطع لسانه عن ذكري، فارجع إليه وقل له أن يكلمني كيف يشاء فإني سميع ومجيب؛ فقام موسى عليه السلام، وأخذ يبحث عن الراعي حتى وجده مهموماً محزوناً، فبشره بما خاطبه الله تعالى في شأنه.

إنّ الله سبحانه وتعالى رحيم ودود رؤوف ولطيف بعباده، ولكن المتشيِّخين استطاعوا أن يسحبوا هذه الصفات كلها من الله، بما زرعوه باسم الله من الحقد والكراهية والبغضاء بين المسلمين أنفسهم، وصاروا يقتلون باسم الله، ويكفرون الناس باسم الله، حتى بدأ إسلام الفطرة يختفي من قلوب الناس، وصارت الجزيرة العربية، منبع كلِّ الشرور؛ ففي الوقت الذي نجد فيه العالم شبه مستقر، فإننا نجد أنّ هذه المنطقة هي الملتهبة؛ وأحياناً أتساءل: ماذا لو أنّ شخصاً مثل "مهاتير محمد" رئيس وزراء ماليزيا الأشهر لم يطبق سياسة "النظر شرقاً" حيث اتجه إلى الاستفادة من التجربة اليابانية والكورية، فاتجه غرباً إلى الاستفادة من الدول العربية، هل كانت ستقوم لماليزيا قائمة..؟

يتحمل العلماء مسؤولية الحفاظ على هذا الدين، ولكن عندما يتكاثر من يتحدث عن الدين وكأنهم مفوّضون من الله في التحدث نيابة عنه وفي تسليم صكوك البراءة والغفران، فإنّ تركهم وكلامهم يكون في مصلحة الأمة؛ فكثير مما يقولونه فيه تنفير من الله ومن الدين، وما الصفات التي ألصقوها في الله وفي دينه إلا دليلاً على أنهم لا يعرفون الله حق المعرفة ولا يقدِّرونه حق قدره، والأمثلة كثيرة ولست بصدد رصدها، ولكني أرى أنه لزاماً عليّ أن أقول إنّ هناك من يعرف الله سبحانه وتعالى ويحبب خلقه إليه، أكثر ممّا فعل بعض المسلمين، ولعل أبرزهم هو "برمهنسا يوغانندا" ذلك العارف بالله، الذي لا تقرأ له شيئاً إلا وتزداد معرفة وحباً وتعلقاً بالله، وقد تواصلتُ مع مترجم أعماله إلى اللغة العربية، أ. محمود عباس مسعود، وسألته هل كان يوغانندا يقصد، الله سبحانه وتعالى الذي نعرفه..؟ فقال نعم؛ فهو يذكره بالحروف اللاتينية "Allah"، ويذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكثيراً ما كان يتحدث عن التصوف الإسلامي.

يقول برمهنسا يوغانندا: "إخوتي أرجو أن تتذكروا بأنّ الله واحد، وبأننا أفراد أسرة كونية واحدة. وعلى هذا الأساس يجب أن نتبنى وسائل بنّاءة لمساعدة بعضنا بعضاً.. مادياً ومعنوياً ومالياً وروحياً، كي نصبح مواطنين مثاليين في أرض الله هذه.. فلو حاول كلُّ فرد في مجتمع تعداده ألف نسمة اللجوء إلى أساليب الغش والخداع والقتال لإثراء نفسه على حساب الآخرين، لكان لكل واحد 999 عدواً.. في حين لو حاول كلُّ واحد أن يتعاون مع الآخرين ويعمل معهم وليس ضدهم، لكان لكل واحد 999 صديقاً.. وبالمثل، لو ساعدت كلُّ البلدان بعضها بعضاً عن طريق المحبة، لنعمت الأرض بالسلام، ولكان هناك الكثير من الفرص لتحقيق حاجيات الجميع وتعزيز رفاهيتهم.. يجب خلق توازن مّا بين المعرفة الروحية والعلوم الطبيعية؛ فبدون ذلك التوازن سيتعثر الأفراد والأمم وسط الشقاء والدمار.. ولو كان قادة العالم المعاصرون مستنيرين روحياً ويعملون معاً لتمكنوا من القضاء على الحرب والفقر من الأرض في غضون أعوام قليلة".

ويرى أنّ كثيرين يترددون في البحث عن الله، محتسبين أنّ الحياة ستصبح قاتمة مكفهرة وفاقدة للرونق والمتعة؛ لكن العكس هو الصحيح؛ فالسعادة النقية التي يعثر عليها العارفون في التناغم التام مع الله تعجز الكلمات عن وصفها، وأنّ الفرح الروحي يتمثل في الله، والتعرفُ عليه معناه تكفين كلِّ الأحزان ودفنها غير مأسوف عليها؛ ومن أقواله "إنّ الله يقرع بصمت أبوابَ قلوبنا وينادينا كي نعود إليه، لكن معظم الناس غير راغبين في العودة؛ ومع ذلك فعندما تسوَّد الدنيا في عيونهم ويَعلقون في فخاخ المشاكل أو يقعون فريسة المرض يسارعون في الدعاء إليه والتماس عونه؛ فمن يُمتـّن روابط الوفاق والانسجام بينه وبين الله في أوقات السعادة والرخاء سيجد الله بجانبه عندما يحتاج إليه.. إنّ من بين حشود البشرية الهائلة قلائل جداً من يبحثون عن الله بجدية"؛ ويقول الحكيم يوغانندا إنْ أنتَ بحثتَ عن الله بصدق وعمق ستعثر عليه، وسيتعزز يقينك بأنه معك دائماً، وستفارقك الهموم والأوهام ولن تنخدع بعدها أبداً.. لأنّ كلَّ ما في الوجود هو تجربة لإغراء الإنسان كي يبتعد عن الله؛ فيجب أن يتوجه الإنسان إلى الله ويحصل على السلام والأمن والأمان، ليس فقط لنفسه بل أيضاً لأعزائه.

لتكن علاقة الناس بالله علاقة مباشرة وبسيطة وبعيدة عن الوسطاء وعن التعقيدات، وقد أورد جلال الدين الرومي حكاية شخص كان لهجاً بذكر الله ولم يكن يردد سوى كلمة "يا الله، يا الله"، إلى أن عرض له الشيطان في مخيّلته وقال له: إلى متى تظلّ تنادي من لا يجيبك ولا يعير لندائك أهميّة؟، فأخذت هذه الوسوسة منه مأخذها، فترك الذكر، ولمّا آوى إلى فراشه تراءى له في المنام من يقول له: لماذا انقطعت عن الذكر؟ فقال: لي سنوات اُنادي الله، ولكن لم أسمع الجواب، فقيل له: إنّ دعاءك وذكرك لله هو جوابه لك، أي أنّ الله قد جعل فيك الرغبة في التوجّه إليه.

في إحدى المرات سأل أحد التلاميذ الحكيم يوغانندا: ما الذي يجب أن أفعله كي أتعرف على الله؟، فأجابه: في كلِّ لحظة من لحظات فراغك غُص في بحر التفكير العميق به، وتحدث إليه حديث القلب للقلب، والروح للروح؛ إنه أقرب من القرب وأعز من الحبيب، اعشقه مثلما يعشق البخيلُ المالَ، واحببه محبة المتيّم الولهان، محبة الغريق لنسمة الهواء؛ فعندما تبثه حنينك العارم وشوقك الغامر سيأتي إليك.

إنّ البشرية بحاجة إلى من يحبِّب الله إليها ويقرِّبهم إليه، مثلما فعل برمهنسا يوغانندا، ويكفي الأمة ما أصابها من البلاء، بفضل من يملكون القدرة على الإماتة، وهم الآن من الكثرة بمكان.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك