وداعا أبا زياد

فؤاد أبو حجلة

الحزن في الوداع الأخير لا يساويه حزن، والقلب حين يلتاع بالفقد يتجمر قهرا وأسى. أعترف بحزني ولوعتي وقهري، وأنا أتابع تشييع جثمان الراحل الكبير طارق عزيز إلى مثواه الأخير في مادبا الأردنية المطلة على فلسطين، حيث ينام أبو زياد بسلام في قبر مسيج بالحب وبالعرفان.

ما أصعب أن تعيش في وطن وتموت فيه ومن أجله، وتدفن خارجه.. لكن هذه ليست حكاية العربي العراقي طارق عزيز، لأن هذا الضمير العربي لم يدفن في تراب غريب، ولأن مادبا كما الموصل أرض عربية الهوى والهوية تتنفس في الصبح الأردني الندي عطر شهداء الأمة. لو كنت في عمان لما غبت عن التشييع، ليس من باب احترام الموت فقط، ولكن لنيل شرف الحضور في وداع عربي أصيل جند عقله وقلبه وروحه للدفاع عن حقنا في الحياة.. بكرامة. أعرف أن هذا البوح يستفز مثقفين مسكونين بهواجس طائفية مريضة، ويغضب ليبراليين يقدسون النموذج الأمريكي، لكن الحياة لا طعم لها ولا قيمة بلا موقف.. وقد كان الراحل الكبير صاحب موقف، وكان يحترم رؤى الآخرين حنى لو اختلف معها. في العام 1991 التقيت طارق عزيز في بغداد. كنت ضمن وفد إعلامي أردني زار عاصمة الرشيد للتضامن مع العراق في مواجهة الحصار الجائر الذي شارك فيه عرب وعجم.. وكان ظلم ذوي القربى أشد مرارة. تحدث الرجل بوضوح عن موقف بغداد، وعن الحملة التي استهدفت وجود الدولة العراقية وكانت تريد النيل من ريادة العراق لمشروع النهوض العربي، وكان "أبو زياد" متفائلا بقدرة الأمة على مواجهة هذا الاستهداف ودحر المؤامرة. وأذكر أنه غضب من سؤالي عن جدوى الرهان على الأمة التي كان نصفها في خندق حفر الباطن، ورد بالقول إن رهانه على الشعوب وليس على الحكام، وزاد بأن هذا الرهان يتأسس على ثقة مطلقة بالانسان العربي وطاقاته الخلاقة.

بعد غزو العراق واحتلاله، وبعد تمكين العصابات الطائفية من حكم البلاد، واعتقال طارق عزيز والزج به في سجن أمريكي في بغداد، كنت أسائل نفسي عن جدوى الرهان على الأمة، واستسلم للاحباط وأنا أبحث عن الطاقات الخلاقة ولا أرى غير الفوضى الخلاقة التي أشاعها الأمريكان على ضفاف الأنهار وفي صحراء العرب. لم يكن طارق عزيز محقا في ثقته بالمحيط العربي، لكنه كان صادقا في التعبير عن قناعته.. وربما عن أمله.

استطاع الأمريكيون ومن معهم من عرب الطوائف وأد الأمل، وتمكنوا من خلق واقع عربي مجنون تضيق فيه البلاد بأهلها، ويضطر العربي للنضال من أجل البقاء حيا في البلاد أو البقاء ميتا تحت ترابها.

وها نحن غرباء في وطننا الذي كنت تحلم بأن يكون واحدا، توقفنا الشرطة على حدود البلاد لتفتيش حقائبنا وقلوبنا، ولفحص وثائقنا ونوايانا، وقياس منسوب الحزن في أرواحنا.

لا خاتمة لهذا الحزن العربي الذي يحمله الهواء من طرطوس إلى طنجة، ومن بغداد إلى تونس، ومن القدس إلى كل المدائن. لكن الحزن صار ممنوعا، تصادره السلطات وتعاقب المصاب به بالحجر الأمني..

في زمن الانكسار، يضيع دمنا بين قبائل العرب والفرس والعثمانيين والساكسونيين، ويموت ناسنا في حروب داحس داعش وغبراء الصحراء. وفي لحظة الحزن هذه، استذكر أبا زياد مفكرا عربيا أصيلا، ورجل دولة محترفا, وانسانا نبيلا لم يساوم على حق العراق أو حق العرب في حبة رمل أو قطرة ماء.

سلاما أبا زياد.. والمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام.

تعليق عبر الفيس بوك