حب الوطن فوق المذاهب

محمد بن عبدالله العريمي

تخرجت من الثانوية العامة قبل أكثر من عقد، ومضت السنين تلوى الأخرى تباعا كالحلم، ولم نكن كطلبة ندرك حينها معنى المذهب والطائفة، أكثر ما كنا ندركه أنّي عماني واعتز وافتخر بوطني وبسلطاني -حفظه الله ورعاه - لكن ما صدمني هو ما وصلنا إليه اليوم، خاصة بعد دخول تقنيات جديدة للتعارف والتواصل بين الناس، كالتويتر والفيسبوك والواتساب وغيرها.

لقد ساءني جدا، نشوب سجالات متطرفة ليس بين مشايخ وعلماء في الدين ولكن بين طلبة مراهقين في الإعدادية والثانوية، كلها صبت في صالح تقديس المذهب والطعن في إيمان الآخر، مؤكدًا أنّ المعرفة بحقيقة هؤلاء الذين يبحثون في المسائل الخلافية ويؤججونها، ليسوا من العقلاء ولا العلماء ولا الحكماء، بل بعضهم مراهقون وحديثو أعمار، ولو سألته عن أركان الصلاة وأركان الغسل من الجنابة لم يكن ليجيبك، وهو هناك يتشدق بأحاديث خلافية مضت عليها أكثر من أربعة عشر قرنا.. كان الاختلاف بين المذاهب ولا يزال وسيستمر الى يوم القيامة، فالاختلاف شيء طبيعي، بل هو مورد مهم لتطور معارف الدين ووجوب مواكبتها للتطور البشري الحاصل، لكن المصيبة أن نحول الاختلاف إلى خلاف والاتفاق إلى شقاق، علينا أن نعود لقاعدة الاختلاف التي يسير عليهاء فقهاء الإسلام قديما وحديثا - بالطبع من فئة العقلاء - وهي القاعدة المنسوبة للإمام الشافعي رحمه الله "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

كانت في السابق توجد مثل هذه الاختلافات، ومردها الأدلة والبراهين التي تعتمد في التفاسير، سواء من القرآن أو السنة النبوية الشريفة، ومع إيماننا جميعا بأن السنة نالها بعض التحريف والتسييس، فإنّ علينا أن نحتكم في العقائد لكتاب الله سبحانه، وأن نترك كأشخاص عاديين، مسائل الخلاف على جنب، بعيدا عن أذهاننا وأذهان أطفالنا، علينا ألا ننشغل بهذه الاختلافات، لأنها لن تغير شيئا من الواقع، فكل المذاهب صمدت لمئات السنين وستبقى هكذا، فالاختلاف سنة الله في خلقه، ووجب علينا ألا نسعى نحو هذا الطريق المظلم، وإلا سنصنع حتما أجيالا حاقدا بعضها على بعض، أجيالا ترى المذهب والطائفة فوق الجميع.

لقد شدني رقي الحوار الذي دار بين أحد طلبة العلم العمانيين من المذهب الإباضي ويدعى (أبو الأيهم العامري) مع الشيخ الدكتور محمد البراك، لقد أحصيت كلمتي (شيخي وأستاذي) التي وجهها العامري للدكتور، بأكثر من تسعين مرة، وكان الأسلوب بين الطرفين يعتمد على العقلانية وسرد الأدلة، بعيدًا عن التطرف والسباب والعنجهية مما جعل الدكتور يصدر بعد ذلك تغريدات جديدة يمتدح فيها الشباب العمانيين من المذهب الذين التقى بهم، وكذلك امتدح أسلوب الحوار الذي دار معه، وهذه دعوة لضرورة تعلم أدب الحوار مع المخالفين، خصوصًا من العلماء ومشايخ الدين الذين أوجب لهم الإسلام الاحترام والتقدير.

كثيرا ما تصلنا رسائل وتغريدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطعن في ديني أو مذهبي، وبعضهم يصدر فتاوى تكفيرية وبعضهم يصدر أشرطة وكتبا تحريضية، وتخصص فقط للهجوم على المذاهب الإسلامية الأخرى التي لا توافق هواهم، بمعنى تكفيرية بالجملة، ومع ذلك أرى تجاهل مثل تلك التصرفات وإن كان الرد وجوبا فينبغي أن يصدر عن عدد محدود من مشايخ العلم فقط، وليس من كل من هبّ ودبّ، بشرط أن يكون الرد موجها توجيها سليما، بحيث يرد الشيخ ويذكر بأنّ رده في هذه المحاضرة موجهًا للشيخ الفلاني الذي أساء إلينا بكذا وكذا، وأن نبتعد عن الردود العامة التي قد يفسرها البعض أنها موجهة ضده والمقصود أو جماعة أخرى..

لديّ صديق إباضي متزوج من فتاة سنيّة، وصديق سنّي متزوج من إباضية وكم هذه الزيجات التي لا تعد ولا تحصى، وقبل فترة بسيطة أخبرني أحد الأشخاص أنّ مواطنًا عمانيًا سنيا من ظفار متزوّج من فتاة شيعية من مسقط، وعاقد القران شيخ إباضي، فلدينا دين واحد ووطن واحد وتاريخ واحد وسلطان واحد.. علينا أن نمشي جميعًا في طريق واحد وإلا تفرقت بنا السبل، وألا نعير دعاة الفرقة والشقاق الذين يبعثون إلينا بهذه السموم أي اهتمام وأن ندافع عن وحدتنا وإخوتنا وعن بعضنا بعضا كمواطنين عمانيين مسلمين متحابين.

علينا ألا نجعل من المذاهب أرضًا خصبة للشقاق، بل نجعلها أرضًا خصبة للتعارف والتفاهم والتعايش، عشنا مئات السنين تحفنا نعمة الأمن والسلام، وتظلنا المحبة والوئام، ووجب علينا الحفاظ على هذه النعم وشكرها، والحفاظ على وطننا أرضًا وشعبًا وعلينا ألا نعطي فرصة لأي حسود أن يسير بيننا بالفرقة، وأن ندرك حجم الدمار الذي لحق بدول وشعوب من وراء هذه المذهبية والطائفية البغيضة، وأن ندرك جميعًا ما يراد بنا من فرقة وشقاق.

إن أقوى الدول في العالم الآن، هي تلك الدول التي تخلت عن المذهبية الدينية والطائفية العنصرية، فالولايات المتحدة الأمريكية بها ما يزيد على 700 مذهب وطائفة، ولكن لا أحد مهتم بنشر الخلافات بينها بل احترموا معتقدات الجميع، وانشغلوا ببناء دولتهم وذلك من أجل الوطن وحده، فأسسوا دولة كبرى وحققوا تقدمًا علميًا واقتصاديًا عظيمين، وأنا أدعو إخواني الطلبة وإخواني الموظفين الذين ينشغلون بهذه الأمور أن يجتهدوا في علمهم وعملهم من أجل عمان وشعبها وأن يبتعدوا عن أي مهاترات بغيضة..

حفظ الله عمان وأهلها وسلطانها من كيد الكائدين وحسد الحاسدين وحقد الحاقدين والله من وراء القصد.

تعليق عبر الفيس بوك