حوارية الأنواء والشعراء

د . سعيدة بنت خاطر الفارسي

يا مزنة َالصيفِ من دَرِّ الحيا صُوبي

بواكفِ القطْرِ مُنْهلِّ الشآبيبِ
على منازلِ أُلاُّفٍ عهدتُهُمُ

من ذاتِ جوسٍ إلى ذاتِ العَراقيبِ

* ( درِّ الحيا: الغيث، صوبي: أمطري وجودي، الواكف: المطر المنهل وهو الدفعة من المطر، ذات جوس، ذات العراقيب: أماكن بعمان)

من أشعار الشاعر العماني الكبيرأبو بكر أحمد بن سعيد الستالي، من شعراء القرن الخامس الهجري، ويقول في قصيدة ثانية:

أما تَرَى نَفَحاتِ الصَّيفِ قد نشرتْ...

من النباتِ على وجهِ الثَّرى حُلَلا

واسْتضْحَكَ الزهرُ والنُّوارُ مُبتسمًا

قد غادرتْ فيه أنفاسُ الصِّبا بَلَلا

حَلَّتْ عليه سِجالاً* كلُّ غاديةٍ

وَطفاءُ تَسفحُ فيه وابلاً هَطَلَا
* (سجالا: انصبابا، وطفاء: منهمرة)

هذه الأشعار وغيرها كثر في دواوين الشعر العماني تدل على أن أمطار الصيف الشديدة الانهمار نعمة وجمال يغسل الروح والعين، وهي لدينا قديمة ليست مستجدة (بجونو وفيت وأشوبا) وغيرها من المسميات، وكان العمانيون يحتفون بمطر الصيف ويفرحون به لما له من أثر في تلطيف الجو وانتعاش الطبيعة، ولهذه الأنواء تسميات عديدة كما يقول الشاعر الشعبي اليوم:

قالوا أشوبا قلت هذي ضربة (الشلي)

وضربة (اللحيمر) يخلي الدار رويانه

من وين جاب التسميات خله يولي

اشوبا جونو وفييت أوثان شيطانه

روح أسال الأجداد إن كان تندلي

بيخبروك عن الناس وش قد فرحانه

وزانتْ الأرض بالعشب والورد والفلي

بساط أخضر تبهج النفس طربانه

هذي مواسم وين ما تسير وتحلِّي

ومسيِّر الكون الله معتلي شانه

ونرفع دعانا لله دوم ونصلي

على هذه النعمة منالله سبحانه

وتسجل ذاكرة العمانيين الكثير والكثير من هذه الذكريات، والذكرى التي تحملها ذاكرتي تعود إلى طفولتي عندما جاء بنا الوالد لزيارة عمان وكنت آنذاك في إجازة الصف الثالث الابتدائي، ونزل مطر شديد متواصل الانسكاب كانت بيوت الفقراء مبنية من الزور، والبعض من الطين والحجر، انهارت كثير من البيوت وسكب المطر داخل كثير من الغرف الطينية، وتجمع معظم الناس في البيوت الكبيرة المبنية بالحجارة، سمى ذلك العام بعام الضربة، وتسجل ذاكرتي كثيرا من المناظر، فأذكر أنّ الوادي كان يدخلالبيوت ويخرج بمنازة الأطفال الرضع،والسجاجيد والحصر والوسائد وأوني الطبخ، ورأيت الأغنام والبقر والدجاج والكلاب والقطط،وهي مستسلمة للتيار يسير بها، طبعا مناظر عجيبة أول مرة في حياتي أراها، وهي مناظر مبهجة للأطفال الفرحين بمنظر الماء وهو يتدفق حاملا معه العجب العجاب،وكان الأجداد على قلة مالديهم يحمدون الله ويشكرونه ويستبشرون بكل عطايا السماء، وبعد أن تنتهي سكبة الأمطار وتشرق الأرض بنور ربها، يخرج الناس مكبّرين مهللين ويبدأون في تفقد الأضرار، وأجمل منظر تراه العين رؤية الناس وهم يتكاتفون لبناء منازل بعضهم البعض وهم يغنون عند نقل الدعون (سعف النخيل) لبناء بيوت الزور، ولنقل الحجارة لبناء بيوت الحجر والطين، وكلما انتهوا من بيت انتقلوا جميعا للذي يليه،وكانوا تأدبا لايسمون ذلك بالأعاصير والعواصف والزلازل، بل يسمونها بالعامية ضربة، وبالفصحى أنواء، وكل هذه الأسماء مخففة الوقع وتدل على الخير، فحتى الضربة نقول ضرب المطر أي نزل بكثافة،وضرب الريح أي عصف، اليوم ما شاء الله كل الروع والفزع والهلع قبل أن تأتي الأنواء، وعندما تساءلتلماذا كل هذه الهوجة والضجيج في الواتساب ووسائل التواصل؟ وكان أجدادكم على قلة مالديهم صابرين عند المحن شاكرين حامدين؛ قال بعض الشباب أجدادنا يرحبون بها لأنّهم ماعندهم سيارات يخافون عليها وستغرق، ولا انترنت بينقطع، ولا بنية تحتية ستدمر، ورغم منطقية الكلام نقول: ياسبحان الله ماذا يفعل جيراننا، وبلادهم تعتبر مركزًا للأعاصير بين كل فترة وفترة، سوى التسليم والصبر، يا شبابنا الأحبة هذا لطف من الله وليس غضبا، وهذا ذكر لتذكروا الله كثيرا وتوقروه وتشكروه على ما وهبكم من نعم،فقيل: لقد اسمعتِ لو ناديتِ حيًّا، ولكن لاحياة لمن تنادي، فجأة كلنا أصبحنا أرصادًا للأرصاد، وكلنا نهوِّل ونخوف وننذر بالوعد والوعيد، وكأن قيامتنا ستقوم، وجاءت أشوبا كما اطلقوا عليها، وفعلت ما أمرها ربها به، وانسحبتْ.

وحدهم الشعراءكانوا فرحين ويرسمون صورًا مدهشة مع إيقاع الماء يقول الشاعر أحمد بن محمد المعشني:

المطر غطى تجاعيد الكهوف.. ياترى من خوله

والجبال تمد للغيم الكفوف.. كنها متسولة

هو عطش والا اشتياق.. أو ترى صلح ووفاق

ياسننا المستحبة.. إيش تعريف العناق

لقد قامت الدولة بدورها وحذرتْ الناس في المناطق المتوقع بأنها ستتأثر بالأنواء، لكن الناس أيضا، شقوا على أنفسهم وعلى الدولة، وحمَّلوا رجال الإنقاذ من الجيش والشرطة والشباب المتطوع فوق طاقتهم، نتيجة لمزاجيتهم وقدريتهم، اخرجوا لن نخرج ليقدر الله ما يشاء، هذا ياجماعتنا ليس توكل هذا تواكل رسولنا الكريم قال (اعقلها وتوكل) بمعنى أمن أمورك واحفظها ثم توكل على الله، نعم ربما مرتْ الأمور بسلام،لكن إن لم تمر بسلام ستعرضون أطفالكم وأهلكم والدولة بمختلف قطاعاتها، وتعرضونا للقلق والخوف والألم، يا ناس قليل من الوعي نوفر على أنفسنا وعلى بلادنا الكثير، ولله الحمد الكل كان مستعدًا ومراكز الإيواء موجودة والسدود قامت بدورها جيدا، فلماذا هذا العناد الغريب حتى يحدث ما لا تحمد عقباه !!!ويبقى سؤال:لقد كانت هذه الأنواء والضربات تمر بسلام فلماذا هي اليوم ساحقة مدمرة، سيجيبنا الشعر مرة أخرى ومن الشاعر الكبير سالم بن علي الكلباني:

سـمـعنـا اليـوم جعـجعـة** فهل سنرى غدا طحنا

لـجــانٌ بالمئـاتِ لـهـا ** ضجيجٌ يرهبُ الجنا

تنادوا كي يصدوا السيل**في فيضانه عنا

ولو تُركتْ لها الوديان ** لم تغلق ولم تبنى

لعشنا في أمانِ الله **لانتهيبُ المزنا

إذن من الجائر نحن أم الأنواء، إنّه الإنسان وعبثه بالطبيعة للأسف، ولكأن ما يحدث هو احتجاج من الطبيعة؛ فالوادي لايغيّر مجراه ولو هجره مئة عام، سيعود لنفس المجرى، فلماذا البناء والتمدد خلسة في مجري الأودية بحجة أنّها انقطعت عن المكانلمدة طويلة، فيالك يابني آدم من مطامعك التي فيها حتفك وهلاكك ذات يوم.

لكننا نظل أبناء قابوس عند الشدائد نهب يدًا واحدة شرطة وجيشا وأهالي، وبارك الله في الهمم العالية، فقد قفز بعض الشباب من كل حدب وصوب، وذهب بعضهم من مسقط لنجدة أهل الشرقية وتبرع البعض من عبري، ووالله إن النخوة لم تفارقكم يا أبناء عمان، وإنكم بالفعل أبناء قابوس الذي أحسن الغرس، حتى اقتديناه شهامة ومروءات وفي هذا يقول الشاعر يونس بن مرهون البوسعيدي:

فـــديتكم يــاحمــاة الوطــن *** أيا أكرم الخلق عند المحن

ويا خير من أنجبتهم عمان *** ومن غيركم في عيوني من

ألــذُّ لقلبــي يُضَــمُّ إليـكــم *** فإني بحبكم مفتتنْ

سلامٌ عليكـم جنـودَ عمـان *** سلامٌ عليكم حماةَ الوطنْ

تعليق عبر الفيس بوك