"أشعر بالعطش"!

أمل بنت عامر السعيدية

هنالك كتب قرأتها لا أستطيع نسيانها أبداً، وأكاد أجزم أنني بعدها لم أكن مثلما كنت قبل قراءتها. إنّها كما يقول هوراكي موراكامي الروائي الياباني "تلك العاصفة التي ما إن تدخلها لا تعود بعدها أنتَ كما تعرفُ عنكْ". لهذا كانت العاصفة، هذا صحيح إلى حد كبير، فما توفّره لك من تجارب وامتحانات نفسيّة تعريك أمام ذاتك لهو أمر جد مؤثر، هذا ما حدث معي عندما قرأت حواراً أجرته الكاتبة اللبنانية جمانة حداد مع الروائي النمساوي بيتر هاندكه يقول فيه: "في الفرح أشعر أنني منهوب من حقيقتي" تملكني شعور خاص، ورغبة مُلحّة في الكتابة بعد أن قرأت هذه العبارة. نعم ما هو الفرح؟ وكيف يمكن للإنسان أن يكون سعيداً، وسط هذا الكم الهائل من خيبات الأمل والتداعي المستمر لكل شيء، هاندكه على وجه الخصوص يحتفل في رواياته بالمألوف، بالرتابة وكأنها أصبحت مع كل هذا الضجيج المصطنع في الخارج خصيصة وحدها بعيدة عن الزيف، وشخصيات رواياته إلى درجة كبيرة تحدق إلى العالم بعينين لا هما ذابلتان ولا فيهما توقد زائد عن الحاجة، إنّهما تنظران إلى العالم بهدوء، ذلك الهدوء المسترخي، الذي يجعل الأشياء كلها تعلن عن نفسها كما هي عليه. وفي هذا درجة كبيرة من الألم، أن يصبح الإنسان بمواجهة كل شيء كما هو، حتى وزن ورقة تتمشى على ماء هادئ، لفرط استغراقه في التأمل الصموت. فما هو الخلاص إذن؟ ما الذي يجعل هذه الحياة قابلة للعيش، محتملة، نمر فيها بأقل قدر من الغرابة؟

اتذكر الآن قصة قرأتها لغسان كنفاني حيث الرجل الذي ظن نفسه ملقى في دوامة تدفق، لكنه في اليوم التالي فقط لم تعد نغمة الأغنية التي أحبها هي نفسها بالنسبة له، إننا في اللحظة الأولى لكل شيء يدهشنا نشعر بألم فادح لذلك يقول كثير من الفلاسفة إن الجمال مرتبط بالألم، فنحن هنا نواجه الأبدية أولاً وثانياً شعورنا بأن هذا الانطباع آني ليس إلا، هذا الإحساس ينبثق دائما عند مواجهة الأشياء التي تحدثت عنها في بداية مقالي هذا، هذا لأنّ الخلود هاجسنا الأول كبشر، وبالعودة لقصة غسان، عاش هذا الرجل لوحده بعد أن اكتشف أنه غير منسجم مع الآخرين من حوله، وصفه غسان بالرجل الجبس الذي يحمل هذا العالم على ذراعيه، كم هذه صورة بالغة في التعبير، هذا الموقف الذي يتولد عنه مراقبة كل شيء والوقوف على هاوية حادة دائماً، وفي ليلة استيقظ وهو يشعر بالعطش، فتح صنبور الماء ولم تنزل أي قطرة، ببساطة شديدة يختصر غسان كنفاني كل شيء، "لو كان في الغرفة إنسان آخر لقال له متأففاً: "أريد أن أشرب" ليس من المهم أن تشرب، المهم أن تجد من تقول له إنك تريد أن تشرب". في هذا العالم لا يستطيع الواحد منا أن يسير بمعزل عن آخر يحبه، ربما هذا هو خلاص الإنسان من وساوسه الخاصة، من التلاقي مع قلقه الداخلي، وهذا الرعب التي لا تكف الظروف من حولنا عن توفيره. أحسب أنني اليوم وجدت إنساناً أحبه ورفيقاً لهذا الدرب الطويل استطيع أن أقول له عندما يخرخر صنبور الماء في ليلة معتمة: أشعر بالعطش.

تعليق عبر الفيس بوك