المكوك الدبلوماسي

جمال القيسي

مات طارق عزيز.. ذاك الذي كان يظن كثير من العراقيين الطيبين ذات سنوات قاحلة أنّه لن يموت، وكانوا يظنون أنّ سيجاره الكوبي سيظل مشتعلا للأبد، ولن تستطيع كوبا التأثير عليه بأية اقتراحات من رياح أو نسائم الثورات، لأنّها لم تكن متفرغة لإحياء موات من يظنون أنّهم ثوار، وما لهم علاقة بثورية كوبا سوى استيراد السيجار، فكانت تصدر لهم فقط ما يبتغون ويستحقون.

أسدل الستار عن حياة المكوك الدبلوماسي، الذي خطف الأضواء مثل نجم كروي ذات سنين هوت بنا نتائجها نحو ما لم يكن في خيال أحد. وأحيت وفاة النجم صورة ذلك الرجل الذي كان همزة وصل صدام حسين مع العالم. ولكم كان هذا المكوك همزة قطع في النتائج. المؤكد لم يكن له إلا أن يكون كذلك. فكما اختاره صدام لمهمّات الدبلوماسية، فلا شك أنّه كان تحت رهبة غضب وحمم بركان المهيب فيما لو اتسعت ابتسامته أكثر قليلا مما يرغب به تجهم الديكتاتور. والمؤكد أنّه كان لدى المكوك في كل جولة ورقة صماء في دماغه. مجموعة من السطور حفظها عن ظهر قلب. وله أن يقرأ السطور من أعلى إلى أسفل، أو العكس، لكن لا يمكن له بقبول نقطة فوق هذا السطور ولا فاصلة كلام.

لكن البسطاء أو الخبثاء، لم نعد ندري، يقولون دائما إن طارق عزيز كان على خلاف دائم في وجهات النظر مع صدام!

يا جماعة قولوا وغيروا.. هل هذا كلام عقلاء، هل من الممكن تصور أن صدام يبقي على امرئ يخالفه وجهة نظر؟!

ولو آمنا، وهذا مستحيل، أنّ الرجل كان يخالف القائد الضرورة، فهل يعفيه هذا من وصف الديكتاتور التابع. أليس هو بطانة الديكتاتور الأكبر. وللدقة أكثر، فإن الديكتاتور لا بطانة له، لأنه لا يستشير سوى المأفون بالخراب والدمار الذي في داخله. لا رأي ولا مشورة تعلو لديه على صوت اللعنة على العباد والشجر والحجر وحدود الأرض وعنان السماء. ولا حدود لشهوة البطش ولا انتهاء لنعيق الموت.

بوفاة طارق عزيز نهضت بطولات بعثية نائمة، كنا نظن أنها ماتت مع زعيمها الديكتاتوري أو التحقت بالديكتاتور الداعشي البغدادي الجديد، لكنها كانت متربصة بالأحداث، لتعلن موت آخر البعثيين الشرفاء، ذاهبة، بذلك، إلى أن الشرف يقسم على رجال دون سواهم، وهي بهذا الوصف قد تكون خارج هذه القائمة من المكارم، بدليل أنها ما تزال على قيد التنفس، هي تقول إنه آخر الرجال الشرفاء، وهذا قولها في حق نفسها وحق مرحلتها الحزبية الخالدة: "ها قد رحل آخر الرجال الشرفاء. ننعى للأمتين العربية والإسلامية" هكذا نعاه رفاق السلاح. رفاق الحرب الكيماوية على الأكراد العراقيين وإفناء الملايين فقط لسحق أي كلمة في سياق السؤال، رغم أنها لم ترق لأن تكون ولو عبارة استفهام!

ها هم أنفسهم، المدافعون عن أنظمة المقاومة والممانعة، هم عينهم من يتباكون ويشقون الأثواب على وفاة ذراع الديكتاتور. وهم أنفسهم لا سواهم، من يعتبرون رحيل صدام خسارة الأمة وخسارة التاريخ، وأنه لا مكان له بين البشر أبدا بل في هو صفوف الأبطال العظام والأباطرة والقديسين والشهداء.

لم تكن كوارث طارق عزيز هي التي أوصلت العراق إلى ما هو عليه بالتأكيد، ولا كوارث صدام نفسه، لكن لا يمكن القفز عن أنّ البعث والغلو به ووصوله إلى الحالة الصدامية، من أهم ما أوصل العراق إلى عراق اليوم، وكثير من هذا وكثير من ذاك، وإن يقولوا الاحتلال نقول هو صدام لا سواه من جلب الاحتلال إلى العراق.

وقبل ذلك يا رعاك الله، كيف ننسى عقودًا سرق فيها صدام العراق. كل العراق. حيث صارت البلاد جمهورية خوف كبرى، وكان من المستحيل أن يبتسم أحد بدون إذن الرئيس، أو يهمس عراقي لزوجته بدون رغبة الأمن، ثم كان على العراق أن يعيش ثمانية أعوام الحرب بصيفها وشتائها حتى ينهي القائد الحرب فجأة، ثم يعيد كل غنائم الحرب في أقل من 8 أيام!

كل ذلك قبل أن يبدأ مسلسل المحافظة التاسعة عشرة، ويا لهول ما ضم من حلقات لم تنته بعد!

· ‪©

تعليق عبر الفيس بوك