حالة سفر

عهود الأشخرية

في ساحة المطار المثقلة بزحام البشر وزحام الدموع وعبارات الوداع، أتأمل وجوه الراحلين وهم يحملون شيئا أثقل من أمتعة السفر؛ يحملون في دواخلهم مشاعر أولئك الذي ينتظرونهم في مكان ما في هذا العالم، والذين تركوهم معلقين خلف خطوات غيابهم ينتظرون إشارة تراجع للوراء لكنها غالبا لا تأتي، في هذه اللحظات تعود لذاكرتي قصيدة لبدر شاكر السيَّاب هذا العظيم الذي كتب قصائد كثيرة أجمل من تلك التي يعرفها الأغلبية (أنشودة المطر) يقول فيها: "من لقلبي على أقدر، قضي الأمر بالسفر، آه لو أنّه مضى، معهم يتبع الأثر، أترى كان ينثني/ عن محبيه لو قدر"، فكيف سنتبعد إن أخذتنا الخطوة وكنا على صراطٍ واحد.. فهل هو السفر ما يقربنا من أنفسنا ومن الآخر ومن الزمن في ثوانيه المتلاحقة؟ هنا أحاول أنا أسير بوعي لكني في الحقيقة كنت أغيب في الأعين الكثيرة، واللحظات التي تركض بسرعة، كنت أغيب من فكرة لأخرى ولا شيء يتبعني إلا صدى أفكاري الكثيرة.

أفكر كثيرا ما الذي يريده الإنسان من السفر، أعلم بالأسباب الكثيرة والفوائد التي يسافر لأجلها الناس، لكني أذهب هنا لزاوية أخرى غير السفر للمكان، بأن نسافر في الأنا، وفي الآخر، وفي اللحظة ذاتها قبل أن تهرب، وهذا يكون حين لا يتسع المكان، يقول محمد شمس الدين: "ناوليني حذائي وقلبي، ناوليني السفر، ليس لي وطن أو صديق، والهواء الذي يتسرب تحت الثياب ينحني خائفا أن يلامس قلبي"، هنا يتحدث عن أنه لا يتسع له المكان فمن هنا يجب عليه ألا يكون جامدا في رحلته ووجوده في الحياة، حيث إنه على رأي بابلو نيرودا "ميت ذلك الذي لا يسافر"، وحسب ما أظن أنّ هذا السفر ليس بالضرورة أن يرتبط بالخروج من حالة المكان فقط، بل حتى على الخروج من الزمن والذاكرة المحاصرة دائما بالكثير، لذا فإنّ التحرر من هذا كله يعدّ سفرا خارجا عن كل شيء.

على صعيد السفر في الأنا، ليس فقط أن نشدّ الرحال إليها، بل من الجيد أن نهرب منها أحيانا، من سلطتها علينا ومن الطريق الذي تشقه لنا، حتى نعرفنا أكثر وندرك ماذا نريد من هذا الوجود وماذا يريد الوجود منا، وحتى لا ننسَ هذه النفس في ضفاف بعيدة، أو تكون مهملة غير مبالين بحاجاتها ومتطلباتها، "في رحلة العمر والأيام مسرعة، لا تنس من أنت.. أو ما وجهة السفر" هذه النصيحة التي يقدمها لنا زين بن بيه في سفرنا الدائم نحو النفس والأشياء وبذلك فهو يبني مملكة لذاته ويعمرها كيف يشاء، المهم أنه من خلالها يذهب إلى فكره المستقل، وبذلك تكون له حياته الكاملة. ومن وجهة نظري فإنّ أجمل من كتب في السفر إلى الذات على هيئة قصيدة هو عبدالله بيلا حيث يقول: "عن جسدي أتخلى، من جسدي أتعرى، من جثماني أنهض في اليوم الثالث كالمصلوب، ترابي تبر من ملكوت الروح الأعلى، مائي نهر يمتد من اللحظة حتى أقصى أحلام اليقظة، شاهدتي تنهض أيضا تتبعني، تبتلع خطاي، تمحوني من قائمة الموتى"، وهو بذلك يصل إلى حالة قصوى من السفر. وكذلك في ذات الحالة يأخذنا الهندي الجميل طاغور في قوله: "ها أنا أبحر إليك بلا مأوى، يجففها السفر، وأراك هنا فيَّ إذ لا أنا هنا".

وأمّا على صعيد السفر إلى الآخر، فنحن بالذهاب إلى أعماق الآخر تنكشف لنا الأسرار، وتتساقط أو بالأحرى تقل الحجب الكثيرة التي تفصلنا عن الجمال وبعض الحقائق التي لربما كنا في غفلة عنها، فالعلاقة والتي تكون مبنية على أسس معينة تحددها الرؤى المشتركة والتي تجتمع في الميول الفنية والثقافية على سبيل المثال تجعل هذا السفر أكثر مرونة، ومن جهة أخرى، إذا تجاوزنا مرحلة التخلص من الحجاب الذي يفصلنا عن فهم الآخر؛ صرنا أقرب إلينا.. "خوفي صديق العمر إن طال السفر، خوفي إذا جاء المساء وما أتيت مع القمر، خوفي إذا عاد الخريف وما رجعت مع المطر"، ومن هذا النداء تنطلق هذه السمة في العلاقة بين الذات والآخر. وهناك سفرٌ في اللحظة وفي الأشياء والتفاصيل، هذا لأنه لا يجب أن يرتبط بالمكان إنما بقدرة هذا السفر على إخراجنا من حالات كثيرة من الجمود والروتين والحياة التي تتوقف في نقطة معينة.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك