علمني "نافع"

ناصر الجساسي

 

صادفني في مركز حفيت الحدودي رجلٌ طاعن في السن كان يقف مُتكئاً على عصاه السميكة، منتظراً سيارة أجرة تنقله إلى حيث يريد، وحينما رآني تقدَّم وسألني: "إلى أين أنت ذاهب؟"، فقلتُ: "إلى عبري"، قال: "مُتجه إلى جعلان"، قلت: "تفضل".. رحَّبتُ به على مَضَض؛ حيث إنَّ هيئته وطريقة لباسه توحي وكأنه أحد المتسولين!

ونحنُ في الطريق من حفيت إلى عبري تبادلنا أطراف الحديث، وهالني ما سمعت من لسان هذا الرجل، الذي قللت من شأنه في بادئ الأمر.

يبلغ نافع من العمر 75 سنة، رقَّ عظمه، واحدودب ظهره ووزنه، يكاد لا يتخطَّى 40 كجم، إلا أنَّ عُلو الهمَّة لديه وإسهاماته في خدمة مجتمعه وأهله كثيرة؛ فهو كان قد قَدِم بالأمس من جعلان إلى البريمي مُتنقلاً من سيارة إلى سيارة أجرة ليقدِّم واجبَ العزاء والمواساة لأحد معارفه وأصدقائه هناك، ولكم أن تتخيَّلوا حجم التعب والمشقة وبعُد الطريق من جعلان إلى البريمي لرجل كبير في السن يستقلُّ سيارات الأجرة فقط لأنْ يُقدِّم واجب العزاء!

... لسان نافع رطبٌ بذكر الله، وفي أثناء حوارنا ومسيرنا كان يُسمعني من القرآن الكريم شيئاً، ومن الحديث الشريف شيئاً، ومن الأدعية والنصائح الجميلة أشياء، وكان مما أوصاني به إقامة الصلاة في وقتها وبر الوالدين؛ فشدَّني الفضول أكثر لسبر أغوار هذه الشخصية الرائعة فقمت أسترسل أكثر في الحوار معه.

أسهم نافع في بناء 5 مساجد في محافظة الشرقية، وكان يسعى بين أصحاب الخير من أبناء السلطنة ومن دول الخليج وبين المقاولين لعقد صفقات لبناء هذه المساجد، وكان يُشرف عليها بنفسه لحين الانتهاء من بنائها، وكانت وسيلة التنقل هي سيارات الأجرة.

جعلني نافع أُعيد الكثير من حساباتي ومن نظرتي للأشياء؛ فنحن نملكُ السيارات، ونستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها، ولكننا أهملنا التواصل الاجتماعي الحقيقي الذي يقرب أجسادنا وقلوبنا من بعض وأصبحنا في كثير من الأحيان نقدم واجب التعزية برسالة نصية أو واتساب عبر هواتفنا الذكية.

جعلني نافع أنظر للأشياء لجوهرها، وألا أتسرَّع في إطلاق الأحكام على منظرها؛ فكم من إنسان يعيش بيننا بكامل صحته ويرتدي أجمل الملابس ولكنَّ قلبه وعقله مشغوليْن بسفاسف الأمور، ويمضي به العمر دون أن يترك أثراً أو بصمة في مجتمعه ووطنه.

علَّمني نافع أنْ أسعى وأجتهد لفعل الخير وفق إمكاناتي المتاحة، وأن أنجز عملي دون ضجيج أو بهرجة، وأنَّ أي عمل أقصد به وجه الله سأجني نفعه وبركته في الدنيا قبل الآخرة.

... بعضُ المواقف والشخصيات يسوقها الله إلينا رحمة عظيمة؛ تصحِّح مسارنا ونتعلم منها الدروس والحكم وتوقظ قلوبنا وضمائرنا وتقوي علاقتنا بخالقنا.

تعليق عبر الفيس بوك