خلل في التفكير أم مؤامرة مستحكمة؟

عبد الله بن علي العليان

تعتبر نظرية المؤامرة فكرة مستحكمة استولت على العقل العربي منذ الاستقلال وحتى الآن، وهي أيضًا هروب من نقد الذات ومراجعة الأخطاء والسلبيات التي وقعت فيها النخب السياسية العربية في صراعها ما أعدائها، وصراعاتها الداخلية فيما بينها، وأصبحت ـ فكرة المؤامرة ـ همّهم الذي لا فكاك منه أو القفز على معضلتها [في عقولنا] باعتبار أن المؤامرة على العرب إستراتيجية غربية ثابتة ونزعة عدوانية مستحكمة، دون أن تكون هذه الفكرة صحيحة ومنطقية.

والواقع أن بعض الكتاب نقدوا نظرية التآمر وآثارها السلبية على تفكيرنا، لكن لم تقبل مثل هذه الرؤية الناقدة منهم، لأن النخب السياسية لا تريد أن تعترف بالأخطاء، وتبقيها على عاتق المؤامرة الخارجية، وذلك أن الواقع العربي وإشكالاته منذ بداية هذا القرن وحتى الآن قد واجه معضلات عديدة وتحديات كبيرة، بعضها من صنعنا ـ إن لم يكن جلها ـ وبعضها الآخر كان من الآخر المختلف معنا، لكن لأسباب نحن أسهمنا في وجودها نتيجة لخلل في التفكير، وكذلك لغياب النقد الذاتي والحوار الموضوعي والنظرة المنهجية السليمة للأمور الظرفية والعادية باستخدام أفضل الخطوات للتعامل مع ما يواجهنا من ظروف ومتغيرات من خلال التفكير الموضوعي لحل هذه القضايا والمشكلات.

والغريب أننا مع كل كارثة تصيبنا لا نقوم بعدها بالتقييم المنطقي لأسبابها وظروف حصولها بالنقد والتحليل والكشف الواعي للحقائق الغائبة والبارزة في وقوع هذه الكارثة وبدلاً من ذلك نلجأ إلى الهروب من الواقع الذي أسهمنا في وجوده (الأمثلة كثيرة في هذا المضمار)، وكما يقول المثل نقفز إلى الجدار القصير السهل والتفسير المعتاد والمواجهة السهلة والمريحة (نظرية المؤامرة) ـ ولا شيء غير المؤامرة ـ وهذا في الواقع هروب من نقد الذات ومواجهة الحقائق بكشف الأخطاء ومسبباتها، والتي هي نتيجة منطقية لأسباب كامنة وبارزة في ذاتنا بغض النظر عن استغلال الأعداء والشامتين والمغرضين (والمتآمرين أيضاً)! لكن الواقع الذي يجب أن نواجهه أن معطيات ومسببات جوهرية كانت من صنعنا .. أما ما ترتبت عليه وعنه من مضاعفات ومستجدات وتطورات وتدخلات بريئة أو خبيثة فلها تفسير آخر وتقييم له مقاييسه ومعاييره، ويخضع للنقد الذي يؤسس على منطق عادل بعيداً عن الأطياف الخادعة والقراءات الانفعالية.. فالبعض يتحدث عن المؤامرات تحاك ضدنا في وقت وحين، وحتى الآن تتردد الأقوال عن هذه الفرضية التي لا تبارح ساحة أمتنا غير بقية أمم الخليقة، فحرب 48 مؤامرة ...وحرب 76 مؤامرة .. وحرب 56 مؤامرة .. وحرب الخليج مؤامرة ... واتفاق أوسلو مؤامرة ... وغيرها وغيرها .. والأخطر أننا نسكت عن التفسير الموضوعي الذي كان من المفترض أن نسلكه ونتغافل عن أمور كثيرة وظروف كان لها الدور الأساسي في وقوع المحظور الذي نسميه (مؤامرة)، ونحن في هذه المناقشة لقضية "المؤامرة" أود أن أسأل سؤالاً عابرا.. هل كان من الممكن تجنب كارثة 48 المشؤومة؟ وكذلك كارثة حرب الخليج الأولى والثانية وغيرها من النكبات (أقصد المؤامرات)! نعم كان من الممكن أن نتجنب هذه الأخطاء الجسيمة، فلولا الحماس العاطفي الذي حرك مشاعر احتلال فلسطين لكان من الممكن أن نتحوط لما أعده عدونا الذي كان قد أكمل استعداده وعدته لفرض واقعه ظلماً وعدواناً.

وكان من حقنا الدفاع عن حقوقنا المشروعة، وهذا منطق سليم ... لكن هل نحن مستعدون وقتئذ لهذه المهمة المقدسة؟ هل كل أمتنا في ذلك الوقت تملك قرارها السليم والصائب عدةً وعتاداً لدحر الغاصب ومناصريه؟ لا .. لم نكن نملك المقومات والاستعداد والعدة والتخطيط لاستعادة حقنا ولا الظروف أيضاً مواتية لذلك لأسباب كثيرة ليس الآن مجال سردها، والشواهد والمبررات واضحة .. وكان من الممكن أيضاً ألا تقوم هذه الحرب، لكننا نحن اندفعنا بعاطفة والعاطفة وحدها لا تستطيع أن تجابه عدواً خبيثاً كاليهود.

وحرب 67 كان من الممكن أن نتجنب وقوعها لأسباب كثيرة ناقشها الباحثون في مراحل عدة، لكننا أيضاً وقعنا في نفس الفخ القديم .. العاطفة .. والحماس .. والاندفاع... وكان منطقياً أن ندرس نكبة 48 م جيدا، لكننا مع ذلك تجاوزنا كل المبررات المنطقية التي يجب أن تكون على رأس الأولويات في دراسة عدونا وقدراته دراسة وافية.

وكان ممكناً أيضاً ألا تقام حرب حزيران ـ التي مر عليها 48 عامًا، لكن عدونا جرنا إلى هذه الكارثة جراً بافتعال الأزمة على الجبهة الشمالية، حيث كنّا في ذلك الوقت لا نملك القدرات الكافية، فجزء كبير من الجيوش العربية تنقصه الخبرات العلمية والمهارات المهنية .. فالشجاعة وحدها لا تكفي في هذا العصر والإيمان بالقضية العادلة يكون في الوجدانيات والضمائر، وليس في ساحات القتال التي تعج بأحدث الوسائل التقنية. إذاً أين هي المؤامرة؟ وكيف جاءت؟ إن إلقاء التبعات على إخفاقاتنا على مؤامرات عدونا تحتاج إلى تقييم موضوعي ومبررات معقولة.

فالغرب الذي يحيك لنا المؤمرات ـ كما يُقال دائماً ـ لا يستطيع أن يدفعنا إلى ساحات قتال وصراع لا نملك مقومات كافية للمواجهة .. فلماذا نندفع بعاطفة تنتهي بكارثة ثم نلقي بتبعات هذه الكارثة على المؤتمرات؟ أم يكن منطقاً وعقلاً أن ندرس الكوارث والأزمات ونستفيد من التجارب السابقة؟.

فالقضية هي بأيدينا وليس بأيدي عدونا، ونحن نملك قرارنا سواء كان صائباً أو خطأً، وهو المحك الحقيقي لتفسير كل أزمة أو كارثة .. وبدلاً من دراسة القصور ومسببات التقصير نلجأ دائماً إلى هذا التبرير المريح، ونغفل الجوانب السلبية التي أسهمت في هذا المأزق الذي نحن بصدده، فالغرب يهمه إخفاقنا وربما أسهم في ما وقعنا فيه من كوارث وأزمات .. وساند الخصم بالمال والعتاد، لكن إلقاء كل أزمة نسهم في وقوعها بالمؤامرة من الآخر (الغرب) خلل في التفكير وقصور في التخطيط ومبررات سلبية تطيل المرض ولا تشفي المريض.

حتى في أفغانستان فإن الصراع الدامي على الحكم خلال السنوات الماضية بين قادة الجهاد الأفغاني برزت خلاله على الساحة حركة طالبان، فإن أول عبارة قالها قادة الجهاد: إن طالبان مؤامرة أمريكية!! وكان منطقياً ألا تظهر "طالبان" لولا اشتداد الصراع على المناصب بينهم، فالطالبان نتيجة منطقية لما أسهم فيه القادة الأفغان وليس مؤامرة خارجية، فصراعهم أوجد مصلحة في تغذية أحد عناصر الصراع، فلو أمعنا النظر لوجدنا خطأً كبيراً منّا قبل تدخلات أعدائنا، ثم إنه عند ظهور داعش، قال البعض إن داعش مؤامرة إيرانية، وبعضهم قال إنّه مؤامرة أمريكية، ولم يدركوا أن داعش هى إفراز من إفرازات الإقصاء والقمع في العراق، ونتيجة من نتائج تسريح مئات الآلاف من الجيش العراقي الذين وجدوا أنفسهم في الشارع وربما لا يجدون قوت يومهم بعد التسريح!، فماذا سيحدث؟ طبعًا سيتحالفوا حتى مع الشيطان، وليس مع التطرف والتكفير، مع أجل رفع ما يعتبرونه ظلمًا وقع عليهم في وطنهم، وهذه هي المعاناة الكبيرة في العديد من أطراف عالمنا العربي للأسف.

نحن إذاً في حاجة إلى نقد الذات لا إلى جلدها أو تغييبها عن مواجهة الأخطاء والعيوب، وهذا لا يتأتى إلا بالمواجهة الصريحة وحرية النقد الذي يلامس واقعنا بعيداً عن (نظرية المؤامرة أو تضخيم الذات أو جلدها)؟!!.

تعليق عبر الفيس بوك