تعددت مظاهر الأزمة والجوهر واحد

فهمي الكتوت

تناقلت الصحافة العالمية باهتمام؛ تحذيرات الباحث الاقتصادي الأمريكي "نوريل روبيني" المعروف بتوقعاته الدقيقة التي تسبق الكوارث المالية والاقتصادية العالمية، وبينها أزمة عام 2008. مؤكدا أن جملة من العوامل تتفاعل في الأسواق العالمية قد تؤدي إلى ظهور أزمات جديدة متصلة بمستويات السيولة النقدية المتوفرة. ففي مقال له نُشر في جريدة الجارديان البريطانية الأسبوع الماضي، حذر من وجود ما أسماه "قنبلة السيولة الموقوتة" التي ستدفع إلى انهيار اقتصادي حسب قوله. روبيني يرى أنه كلما عملت البنوك المركزية على خلق السيولة لفترة أطول لقمع التقلبات القصيرة الأجل، زادت من تغذية الفقاعات في أسواق الأسهم، والسندات، وغير ذلك من أسواق الأصول. ومع إقبال المزيد من المستثمرين على الأصول غير السائلة المبالغ في تقدير قيمتها على نحو متزايد -مثل السندات- يتزايد خطر الانهيار الطويل الأجل. هذه هي النتيجة المتناقضة للاستجابة السياسية للأزمة المالية، ذلك أن السيولة الكلية تغذي الطفرات والفقاعات، ولكن نقص السيولة في الأسواق من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الركود والانهيار. إن السوق مشرفة على ما هو أخطر من انهيارات سريعة، خصوصا ومع تكديس المستثمرين للمدخرات الصعبة التحويل إلى سيولة، كالسندات، تزداد إمكانية انهيارٍ اقتصادي طويل الأمد، فانعدام السيولة في السوق سيقود في النهاية إلى انهيارها.

ويمكن تبسيط الفكرة بالتالي، إن ضخ البنوك المركزية للسيولة بشراء سندات متعثرة لدعم القطاع المصرفي، والإبقاء على الفائدة إلى نسبة الصفر لتحفيز الاقتصاد لم يأتي أكله، فقد تسرب جزء هام من هذه السيولة نحو المضاربة بالسندات والأسهم، أدى إلى ارتفاع قيمتها السوقية، بدلا من توجه هذه السيولة نحو الاستثمار الحقيقي، وتراجعت السيولة النقدية في السوق، ما زاد من فرص حدوث فقاعات في أسواق السندات والأسهم. تتعدد مظاهر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، إلا أن جوهرها واحد؛ أزمة بنيوية ناجمة عن أسلوب الإنتاج الرأسمالي القائم على الاستغلال، وليس من قبيل الصدفة أن يعاني الاقتصاد الأمريكي من عجز مزمن في الحساب الجاري، وتراجع الادخار بشكل خطير، فمعدل ادخار الأسر والشركات والحكومة الإجمالي يبلغ حاليا 2.5% من الدخل القومي، وهو أقل بكثير من معدله في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي 6.3%. وتعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على فائض المدخرات الأجنبية لتحقيق النمو. وهي من مظاهر الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في سبتمبر 2008.

ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم أن واحدة من أهم ثلاث منظمات دولية أنشأتها بعد الحرب العالمية الثانية، ستشكل إحدى تحديات اقتصادها، في مرحلة العولمة الرأسمالية، فقد تم التوقيع على "الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية" (الجات) والتي نتج عنها المنظمة العالمية للتجارة بمبادرة أميركية عام 1947. لفرض شروط التبعية الاقتصادية على دول القارات الثلاث الخاضعة للاستعمار القديم وحرمانها من التحرر السياسي والاقتصادي، لتوفير الحرية للتجارة الخارجية للمراكز الرأسمالية، بإزالة الحواجز الجمركية أمام انسياب السلع والخدمات بين دول العالم، وعدم التمييز بين المنتجات المحلية والمستوردة، لفتح الأسواق العالمية أمام منتجات الدول الصناعية الكبرى وحرمان البلدان النامية من حماية منتجاتها الوطنية. وإلغاء الحماية الجمركية والسياسات التفضيلية للمنتجات المحلية.

أصبحت هذه الاتفاقية عقبة أمام خروج الاقتصاد الأمريكي من أزمته، كما أصبحت الدول المستهدفة تتمتع بقدرة تنافسية عالية تهدد المنتجات الأمريكية، تسببت بعجز متفاقم في الميزان التجاري الأمريكي، الذي ارتفع إلى أعلى مستوى له منذ عام 2008، فقد قفز في مارس من العام الحالي إلى 51 مليار دولار، قبل أن يتراجع في نيسان إلى 41 مليار دولار أمريكي. وتهاوت الذرائع التي كانت تسوقها أمريكا لتبرير العجز التجاري بانخفاض العملة الصينية، ففي عام 2014 واجهت الولايات المتحدة عجزا تجاريا مع نحو 95 دولة وفقا لما أورده الخبير الاقتصادي ستيفن روتش مؤلف كتاب "انعدام التوازن". فلم يعد الاقتصاد الأمريكي يعاني من عجز تجاري مع الصين وحدها، ومحاولة الربط بين العجز التجاري الأمريكي وانخفاض العملة، ليتبين أن المشكلة بتراجع القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي، وليس بانخفاض العملة الصينية أو اليابانية.

وما يشهده العالم من اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وسياسة التقشف وتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية إلا تعبير عن الصراع الحاد بين الاحتكارات الرأسمالية والبرجوازية الطفيلية في البلدان التابعة من جهة، والطبقة العاملة وشعوب البلدان النامية من جهة أخرى. فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن نتائج استطلاع للرأي، أن غالبية الأمريكيين يرون ضرورة تقسيم الثروة بشكل عادل، مطالبين بمعالجة الفجوة بين الفقراء والأغنياء في أوساط الأمريكيين، وأكد الاستطلاع أن ستة من كل عشرة أمريكيين يرون أن على الحكومة تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء، لدرجة أن مرشحو الرئاسة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يعملون على استغلال هذه القضية الجوهرية في حملاتهم الانتخابية.

كما تتجلى مظاهر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، بالحروب الفاشية المذهبية والطائفية، التي اشعلتها الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية، لتفتيت النسيج الاجتماعي، وتفكيك الجيوش العربية، وتحلل الدولة، ليسهل تصفية القضية الفلسطينية، والاستيلاء على الثروات العربية، وتشغيل الصناعات العسكرية، وشركات المقاولات العملاقة، لإعادة بناء ما دمرته الحروب في عدد من الأقطار العربية، كمحاولة للتغلب على مصاعبها الاقتصادية، وتصدير أزماتها للخارج، غير آبهة بقتل وتشريد ملايين الأبرياء وتدمير ممتلكاتهم.

تعليق عبر الفيس بوك