المسؤول القدوة

حميد بن مسلم السعيدي

المنظومة الاجتماعية من أكثر الأنظمة تعقيداً لما لها من تأثيرات متعددة على حياة الفرد، ويسعى البعض من خلالها لبناء المدينة الفاضلة، أو الاعتماد على فكر المواطنة ومبادئها في بناء مجتمع يحقق السمو في التعامل الاجتماعي والمؤسساتي، خاصة أنّ هناك العديد من العوامل التي تؤثر في هذه المنظومة بدءا من الأيديولوجيّات السائدة فيها، ومكوّناتها المتمثلة في المستويات الاجتماعيّة، والاقتصادية، والوظيفية وبما تشمله أيضًا من تدرج إداري من حيث السلطة والمسؤوليات والمؤسسات والأفراد، إضافة إلى عوامل ضبط بناء المجتمع كالدين والقانون والعرف والتقاليد والعادات، وكلها تؤثر على طبيعة بناء الشخصية الاجتماعية ومدى مقدرتها على ممارسة السلوكيات في ضوء المحك الاجتماعي والقانوني والمؤسساتي. وبحكم طبيعة الإنسان فإنّه يتعلّم ممن هو أكبر منه في العمر أو الوظيفة أو المسؤولية أو الإدارة، فيكتسب العديد من القيم والاتجاهات، والمبادئ، والسلوكيات، والعادات التي تمثل ثقافة المجتمع، بحيث تصبح تلك الشخصية هي الصورة التي تمثله، وفي هذه المرحلة من البناء التي لا تتوقف عن مستوى معين أو مرحلة عمرية؛ وإنّما هي مرحلة مستمرة من التعلم والممارسة، ترتبط بجوانب متعددة منها القدوة بشخصيّة معينة قد تكون ذات منصب قيادي أو مسؤول بمؤسسة حكومية والخاصة، أو من يتولى مناصب اجتماعيّة داخل المجتمع، وتعتبر القدوة عاملا مهما وخطيرا في ذات الوقت، لأنّها إمّا تأخذ الجانب السلبي وتصبح تكرارًا لأفعال وممارسات سلبيّة ولكنّها مكتسبة، وإما تكون قدوة حسنة وهي تمثل الصورة السامية والحسنة في شخصيّة الفرد ومدى مقدرته على تحديد الشخصيّة التي يقتدي بها في كل ممارساته وسلوكياته، وارتباط ذلك بمبادئ وقيم المواطنة التي يعتبرها الكثيرون أنّها المحك الاجتماعي الأساسي في قياس عملية القدوة وكيف نستطيع الاستمرارية بنهج سليم بعيد عن الأخطاء التي تضر بالوطن وتأثيرها في قوته الاقتصادية والاجتماعية؛ خاصة أنّ الكثيرين يعتقدون أنّ القدوة التي أمامهم مهما كانت سلبياتها فإنّها مصدر وسبب يعلقون فيه إخفاقهم في العمل الذي يقومون بممارسته أو مخالفته للقوانين والأنظمة، أو قيامهم بالفساد أيًا كان نوعه، لذا فإنّ كل مسؤول يتولى منصب تطبيق القانون أو إدارة مؤسسة تقع على عاتقه مهمة عظيمة في أنه يُعد القدوة في كل ما يقوم به من سلوك أو عمل أو انضباط، أو تطبيق للقوانين ومحاسبة الآخرين على تنفيذها ومتابعتها، وهذا ما يتوجب القيام به وفقًا لمبادئ المواطنة ومضامينها، ولكن اليوم ما نشاهده من قضايا فساد متعددة كبيرة كانت أو صغيرة، أو مشكلات ضعف الأداء الحكومي والترهل، أو التأخر في تنفيذ المشاريع، أو ضعف في الأداء الوظيفي للموظفين والمؤسسة، أو ضعف مستوى الإخلاص والأمانة، يرتبط جزء منها بعامل القدوة، والكل يتعلل بمن هو أعلى منه في المستوى الاجتماعي، أو الوظيفي أو الاقتصادي، ويقول أحدهم: "جاءت عليّ لأنّي أخذت حاجة بسيطة، أو غبت كم يوم عن الدوام، وهؤلاء الذين يسرقون الملايين كيف مصيرهم؟"؛ لذا فإنّ الاقتداء بالقدوة السيئة يُعد أحد القضايا الخطيرة والمؤثرة في الوطن، خاصة أنّها تؤثر في معظم المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليميّة، فنجد أنّ هذا الاقتداء بشخصيّة معينة يعتبره البعض عذرًا له لتصرفاته الخاطئة التي تصدر منه، متعللاً بأنّ من يفترض الاقتداء به يمارس نفس السلوك وربما أكثر منه، فنجد الموظف قد يُخل بالعديد من واجباته أو أحيانًا يمارس سلوكيّات وممارسات خاطئة وتخالف القانون، ويتعلل بأنّ من هو يتولّى المسؤولية في المؤسسة يمارس ذات السلوك، وهنا تتكون لدينا سلسلة من القدوات المتدرجة من حيث المسؤولية من مستوى لآخر حتى أقل مستوى، والجميع يرجع السبب للمستوى الأعلى وهنا تكمن خطورة القدوة السلبيّة في أنّ الجميع يقتدي بالشخص الخاطئ، مما يؤثر سلبًا على الوطن، لذا فالبعض لا يدرك أننا كمجتمع متكامل في العديد من الجوانب الاجتماعيّة والمؤسساتيّة ويرتبط بعقيدة إسلاميّة وقانونية حدد الموجهات التي يفترض أن يقوم عليها المجتمع، وفي القدوة السلبية يقول الله تعالى: "بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مهتدون" بمعنى اتباع نهج آبائهم دون تحكيم لما كان عليه من سبقهم في تلك السلوكيات، وهنا ينظر البعض في اتخاذ ذلك عذرًا لممارسة العديد من الأخطاء متعللا بأن من سبقه أو من يتولى المسؤولية يقوم بذات التصرف وأنّهما في ذات الموقف سيان، وكأنّه يتناسى أنّ القانون لا يتعلل بهذه الأعذار وإنّما المخطئون أيًا كانوا فهم أمام القانون سواء، ويقول الله تعالى في كتابه العزيز في تحمل كل فرد نتيجة سلوكياته: "وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى" بحيث لا مكان في المحاسبة بسبب الاقتداء، وهذه إحدى القضايا التي تؤثر في التأخر وتعطل العديد من المشاريع والخدمات، وتؤخر تنفيذ المعاملات، وقضايا الرشوة والفساد بأنواعه وممارساته، ويعود جزء من أسبابها إلى اعتبارات مرتبطة بالقدوة، لذا فإنّ اليوم على المسؤولين أن يدركوا جيدًا أنّهم أمام مهمة عظيمة، وأنّ مدى التزامهم بالأنظمة والقوانين والإخلاص في العمل سبب رئيس في انتهاج بقيّة الموظفين ذات النهج، وهو يمثل الصورة السامية في المواطنة المسؤولة، مما ينعكس إيجاباً على نجاح المؤسسة في تحقيق أهدافها، والعكس من ذلك أيضًا فأي ممارسة سلبيّة تصدر منهم تنعكس على الموظف، ويعتبر ذلك سببًا له لخرق القانون أو عدم الإخلاص في العمل، فالمطالبة باتباع القوانين وممارسة أعلى مستويات المواطنة في المؤسسات بمستوى عال من الإخلاص والأمانة يتطلب أن يكون المسؤول قدوة في ذلك، ويقول الله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" فكيف تأمرون الناس بالبر والتقوى ولا تقومون بذلك، وهنا يقول أبو الأسود الدؤلي في ذلك:

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ

عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ

ابدأ بِنَفسِكَ وَانَها عَن غِيِّها

فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيمُ

فَهُناكَ يُقبَل ما وَعَظتَ وَيُقتَدى

بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَعليمُ

Hm.alsaidi2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك