نقد الحال الراهن (24) التَّلميع

د. صالح الفهدي

بعد أن قضى مصلحتهُ التي زارَ من أجلها المسؤولُ، وقال فيهِ ما قال منافقاً ومجاملاً، وقفَ على البابِ مودّعاً، فسألهُ المسؤولُ كما جرت عادة الموادعة: هل تحتاجُ لشيء؟ فقال وقد كشفه مخبوء نواياه: نعم بالتأكيد ما دمت على هذا الكرسي..!!.

كل شكلٍ من أشكال النفاقِ الاجتماعي أو التلميعِ أو الرياءِ إنّما هي تعميةٌ للعقلِ والفكرِ تجعلهُ غير قادرٍ على التّمييزِ والإدراك. وهذه أمراضٌ تفشّت في مجتمعاتنا فولّدت نتيجةً لذلك أمراضاً بدورها..! المشكلةُ التي يحدثها عَور التلميع جسيم وخطير لأنّه يوهمُ الشعوبَ والمجتمعات بأنّها على الطريق الصحيح بينما تمشي في طريق التيه والضلال ليس لها من وجهةٍ واضحةٍ أو هدفِ مرسوم..! عندها "تعيش الحقيقة في خضم الخديعة" كما يقول Friedrich Schiller، فلا يمكن لأحد أن يُميّز الخبيث من الطّيب، ولا يعرفُ الصادقَ من الكاذب، وينطبقُ على هذا المشهدِ الحديث النبوي الشريف عن النبي عليه أفضل الصلاةِ والسلام: "إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ"، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ " السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ"[1].

إنّ التلمييع سرطانُ الشعوب إن استبدَّ بها، لأنه يُقدّمُ اللئيم على الكريم، ويرفعُ التافهَ على الشريف، فيكونُ حال المرءِ الحقيرِ في المجتمعِ نظراً لما يتلقّاهُ من تبجيلٍ وتوقير لا يُقارنُ في مقامِ الرفعةِ بمقامِ المرء الماجدِ الشريف..! يقول أبو الطيب المتنبي ناصحاً سيف الدولة عن هؤلاءِ:

أعيذها نظراتٍ منكَ صادقةً .. أن تحسبَ الشحمَ فيمن شحمهُ ورم

شاعت في مجتمعاتنا ظاهرة التزلّفِ والتملّق والتلميع فتاهت حقائق، وطمس الواقع، والتبسَ الصواب، فأصبحَ البعضُ يستمرؤون المنافقين، ويطيبُ للطبالين، ويسعدُ للّامعين، وهو يعلم في قرارةِ نفسه أنّهم كاذبون..! وهذه مصيبة، يقول ابن سيرين:"إذا رأيت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك". هذا ما يحدث فما أن تنقلبُ الأحداث، وتتغير الأحوال حتى يتبدّل معها هؤلاءِ الملمّعون و"لا خير في ودِّ امريءٍ متلونٍ"، كما لا خيرَ فيمن لم يُسدِ كلمةَ الحقِّ، ويبيّن الصواب، ولا خيرَ فيمن لا يقبلها، يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" كلمة الحق، لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".

أضحى المجتمعُ يُطلقُ على محترف التلميع "شلاّخ" وهي كلمةٌ قد يكون مصدرها "جلخ" والتجليخ اصطلاحا هي عملية سابقة للتلميع والرهافة والصقل..! إنسانٌ يمتهنُ هذه "الحرفةِ" الزائفة ليقضي بها مصالحه كالمعنيّ في الشعر الدارج المتناقل: صلى اليهودي لأمرٍ كانَ يطلبهُ .. فلمّا انقضى الأمرَ لا صلّى ولا صام..!

ولقد رأيتُ أحدهم في مجلسٍ من مجالسِ عليةِ القوم، وهو يرفعُ عقيرته داعياً لصاحبِ المجلس وممجداً، ومستجمعاً كل طاقةٍ من النفاقِ راكمتها الخبرة الطويلة في التلميع والتزويق فقلتُ للجالس جنبي: أُنظر إليه بعد قليل ماذا يفعل..! فلمّا انتهى من خطاب التمجيد والإطراء، والحمد والثناء، مال بجذعه إلى صاحب المجلس وبدأ يهمسُ في أذنهِ من المطالبِ ما شاء..!!

أمّا آخر فقد شطحَ بالرّياءِ شطحاً حتى جاوزَ الحدّ، إذ قال وهو ينتظرُ على مائدةِ الإفطار لمسؤولٍ سأل إن كان قد رُفع الأذان أم لا؟ قال: يا سيدي حتى لو لم يرفع الأذان وأمرتنا بالإفطار لفطرنا..!! لقد بلغ منزلةً من التلميع الزائفِ ما بلغها غيره وبهذا يحقُّ له أن يبلغَ العلياء، ويناطح الجوزاءْ..!.

إن الممارسَ للتلميع فردٌ يشعرُ بالضَّعةِ والنقصانِ وهزالة الثقةِ في نفسه، وقلّة الإيمان، فما من إنسانٍ حرٍّ شريفٍ يقبلُ أن يمارسَ الزّيفَ، ويمتهن الرياءَ من أجلِ مالٍ أو جاهٍ مذؤوم..! وما من إنسانٍ عليِّ الهمّة، كريمِ الحسبِ، صادق النفس يرضى هوانَ النفس بإطراءِ من لا يستحق الإطراء، والثناءِ على من لا يستاهل الثناء..!

إنّ الكلمةَ أمانة فإذا سادَ في المجتمعِ التلميع والنفاق والتزويق والتزيين خرُبت أركانه، وفسد بنيانه، فهو بين مسؤولٍ لا يقبلُ إلا المداهنة، ووجيهٍ لا يُرحبّ إلا بالمجاملة، وغنيّ لا يستطيبُ إلا التملّق..! فجميعُ هؤلاءِ مخدّرون بالكلامِ المعسول، من مرائي جهول، غيّبوا النصّاح الخلصاءْ، وأبعدوا خيرة الأصدقاء لأنّهم ما ارتضوا لأنفسهم أن يخونوا أمانةَ الكلمة فيقول للباطل حق، وللحقباطل..!

وكثرت في المجتمع مصطلحات مثل "نافق تنجح"، و"ادهن السير" ويقصدُ به الحزام كنايةً عن التملّق والمداهنة..! فعلى شأنُ صنّاع الكلامِ المبهرجِ، وارتفعَ قدر التزوييق، في الوقتِ الذي قلّ فيه قدرُ الصادقِ الحاذق، والنبيلِ المرافق، فقلبت المفاهيم إذ صار الذكي هو الذي يتقن فنّ التملّق، والغبي هو الذي لا يحسنُ المديح..! وصار الناجحُ هو الذي يعرفُ كيفَ يُداهن والفاشل هو الذي لا تسمحُ له نفسه بالمجاملة، وأمسى الطريق إلى القمّة بالتجهييل والإستغباء والتعمية وليس بالتنوير والتبصير والتجلية.

أقولُ دائماً بأنني لا أوافق على المثل القائل "المدح في وجوه الرجال مذمّة" ففي يقيني أن المديح الصادقَ واجب للتحفيز، ودفع النفوس إلى المكارم، إنّما المديح الزائف، والثناء المرائي هو المذمّة المنبوذة، ففي الناس من هو قمينٌ بالثناءِ، وجديرٌ بالإطراء وهؤلاءِ قدواتُ الأمّة، وقادة المجتمع، لكن أن يكون المديح درجاً للمصالح، والثناء جسراً للمنافع فذلك طريق الفساد وسبيل الخراب.

لا يجوزُ للمسؤول أن يلمّعَ وضعاً لا يقبلُ التلمييع والمداراةِ والمواراة، فهو مؤتمنٌ على وظيفته، فإن أبانَ لمّعَ وضعاً مزرياً، وزيّن حالاً قبيحاً أساءَ إلى وطنهِ وإلى الأمانةِ التي أؤتمنَ بها لغرضِ استدامةِ منصبهِ، وإطالة أمدَ مكانته..! فالوطنُ أسمى وأعظم وأكبرَ من منصبِ مسؤولٍ لا يؤدي الأمانة التي كلّفَ بها، فكم ضاعت حقوقٌ، وأهدرت ثروات، وتبدَّدت موارد، وغابت مصالح، وعطلت كفاءات في الوقت الذي لا يطالُ المسؤولُ طائلٌ وهو مفرّطٌ في أمانتهِ يستلذُّ بالنفاقِ، ويخدّر بالتّملق..! هذا شأن بعض المسؤولين الذين يُطربون للنفاقِ، ويأنسون للتلميع، فيمارسونه بدورهم لوجاهةٍ مذمومة، وبجاحةٍ مذؤومة، والضحية هو الوطن..! فإن ناصحهم أحدٌ من نظراءهم أو أقلّ منهم كادوا له، ونكلوا به لأنه زلزل قناعاتهم، وهزّ مكانتهم..! لا يمكن أن يكون مثل هؤلاء المسؤولين حريصين على الوطنِ، فيدّعون ولاءه وإخلاصه وهم يتغوّلون فيه من الجانبِ الآخر..!

والإعلامُ عينُ المجتمعِ، ومُعينهُ على التطوير، وميدانه للتنوير، ومنبره للديمقراطية، والإعلاميُّ مؤتمنٌ على مهنته، فإما أن يكون نزيهاً في نقل الواقعِ بشفافيةٍ أو ملمّعاً يسهم في ترسيخ التعمية، وممارسة التضليل الاجتماعي لأجل مصالحَ يرجوها، فإذا به قلب المعايير رأساً على عقب؛ فيشيدُ ويمدح ويبررُ فيشطح، أمّا الحقيقة فهي زيغٌ وبهتان. الإعلام الموضوعي النزيه هو الذي ليس همّه البحث عن مواضيع للإثارة، أو الفضائح، إنّما كشف العيوب وتقديم الحلول، هو الإعلام الذي يكشفُ التجاوزات، ويفضحُ الفساد، واستغلال السلطة حتى يصبحَ بحق سلطةً رابعة مسؤولة، وليس إعلاماً مدجّناً..!

إن مجتمعاتنا لا يمكنُ لها أن تتطوَّر دون ممارسة الشفافية بأصولها، فإن الإجتهادات الإنسانية حافلة بالمعايبِ والنقائص وما لم تصحح فلن تبارحَ مكانها. هذا الأمر يقتضي قول الحقّ في مقامه، وتعديلِ الخطأ في حينه، يقول سيدنا الفاروق رضي الله عنه: "لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، قولوا الرأي الذي تحسبونه يوافق الحق ". وليس من شك بأن أحد العوامل التي تُنشأ النفاق الاجتماعي هو المقاييس المغلوطة، والمعايير المعكوسة التي تصبح ثقافة مسلّمٌ بها في المجتمع..! فالجاهلٌ محترمٌ والعالمٌ محتقر..! والوضيعُ مكرّمٌ والوجيهُ مستصغر..!.

ثقافة المفاهيم المعكوسة تنشأ المسارات المتقاطعة، والتوجهات الملتوية، والمصالح الضيّقة، وهذا وضعٍ إجتماعي سقيم. يقول د. عبدالكريم بكار: "إذا كان قانون الفيزياء يقول: إن الضغط يولد الانفجار، فقانون الاجتماع يقول: إن الضغط يولد النفاق الاجتماعي".

النظرة نحو الفرد يجب أن تصحَّح، بمعنى أن يُنظر للفردِ بحسب كفاءتهِ وإمكانياته وعلمه وقدراته لا بحسب علاقاتهِ وقبيلتهِ ونسبه..! والنظرةُ نحو القانون يجب أن تصوّب فإنَّ تعقيده لأحد وتطويعه لآخر يدفع للفساد..! فإذا نال المجتهدُ حقّه بالترقية، وحصلَ المثابرُ على نصيبه بالتحفيز، وساوى القانون بين الجميع بالإنصاف، ففي ذلك وضعٌ للحق في نصابه، وتنزيهٌ للناس من رذيلة النفاق والتلميع.



[1][ رواه أحمد ]

تعليق عبر الفيس بوك