قَدَرُ عُمان

زاهر بن حارث المحروقي

أكثر من مرة ذكرتُ أنّ السياسة الخارجية العمانية لا غبار عليها -حسب اعتقادي-؛ لأنها مبنية أساساً على عدم التدخل في شؤون الآخرين، لذا لم تشارك في إراقة دماء الأبرياء في ليبيا ومصر وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين، وهذا بدوره وفّر للسلطنة الاستقرار والقبول عند الآخرين، وأعطاها الفرصة الكاملة لأن تكون طرفاً أساسياً ومقبولاً كوسيط في الأزمات، لأنها وقفت على نفس المسافة بين كلّ الأطراف؛ وهي في الأصل مهمة صعبة أن تكون مقبولاً من الكلّ.

إنّ سياسة الحياد ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير مبدأ عماني أصيل، والموقعُ الجغرافي الفريد لعُمان لعب دوراً أساسياً في أن تتبنى القيادة العمانية تلك السياسة؛ لأنّ قدر عمان أن تكون بين دولتين كبيرتين في المنطقة هما: السعودية وإيران، وهما اللتان تتصارعان في أكثر من بقعة في الوطن العربي وتحت مسميات مختلفة وصلت إلى استغلال الدين، ممّا أدى بشعوب بريئة إلى أن تدفع ثمن ذلك الصراع في أكثر من مكان، مثل سوريا ولبنان واليمن وغيرها من الأماكن؛ فكان على عمان أن تحافظ على أمنها واستقرارها بعدم الدخول في هذا الصراع، مع الحفاظ على علاقات ممتازة مع كلِّ الأطراف، فليس من الحكمة أن تدخل عمان في صراع مع الجار القريب لنا إيران، وقد سبق لجلالة السلطان أن قال لجريدة الخليج في الثمانينيات من القرن الماضي، والحربُ على أشدها بين العراق وإيران "إنّ الفرس موجودون هنا من آلاف السنين وسيبقون، وكذلك نحن موجودون هنا منذ آلاف السنين وسنبقى"، وهذا كلام بليغ يعني ألا فائدة للعداء بين الطرفين بحكم الوجود التاريخي، وبحكم ضرورات الجغرافيا مع ما يربط بيننا من عقيدة الدين والتاريخ والمصير المشترك؛ كما ليس من الحكمة أن تدخل عمان في صراع مع الجار الآخر السعودية، لذا كان على عمان أن تتخذ مواقف مستقلة، إثباتاً لاستقلاليتها بما يتماشى مع مصالحها، ومن هنا فإنّ الحكومة العمانية عملت جاهدة على ترسيم الحدود البرية والبحرية مع كلِّ من السعودية واليمن والإمارات وإيران وباكستان، تجنّباً لتوترات حدودية قد تظهر وتكون سبباً في ظهور مشاكل، وقد كانت عمان أكثر كرماً وتسامحاً من غيرها في هذا المجال، وكلُّ ذلك حفاظاً على مستقبل الأجيال القادمة، رغم أنّ التسامح غالباً ما يُنظر إليه من البعض على أنه ضعف.

إنّ السياسة العمانية المستقلة والتي حافظت على التوازن مع كلّ القوى في المنطقة، أعطت الفرصة كاملة لعمان أن تقوم بدور الوساطة بين الأطراف المتحاربة في كلِّ من سوريا واليمن وغيرها، إذ ليس من المقبول أن تقبل الأطراف المتحاربة وساطة من هو منغمس في الصراع أصلاً.

إنّ عمان بموقعها الجغرافي الفريد، هي جزء جغرافي وأمني لدول الخليج العربية واليمن، وهي أيضاً جزء ملتصق جغرافياً مع إيران، فلا بد لها أن تحافظ على علاقات جيدة مع كلّ الأطراف، وهذا ما نجحت فيه عمان على مدى السنوات الماضية؛ ففي السياسة فإنّ المصالح هي التي تفرض نفسها ولا يمكن الاعتماد على الإنتماءات المذهبية، فعندما تسيطر المذهبية على السياسة فهذا مؤشر إلى أنّ الأوطان في طريقها للدمار، وما يحدث الآن في الوطن العربي من فتن خير دليل على ذلك.

ولكن السؤال الذي يجب طرحه الآن هو: هل تستطيع السلطنة أن تحافظ على هذه السياسة مستقبلاً؛ وقد ظهرت على السطح مؤشرات جديدة، مثل دخول دول مجلس التعاون في أكثر من قضية بطريقة أقرب إلى "التورط"، مثل التدخل في شؤون ليبيا ومصر وسوريا، والدخول في عدوان غير مبرر على اليمن..؟!

في مقال نُشر بموقع مجلة "فورين أفيرز" كتبه كلٌّ من "سيغريد نيبور"، الباحث غير المقيم في معهد دول الخليج العربية بواشنطن، و"أليكس فاتنكا" من معهد الشرق الأوسط في واشنطن، تحدثا فيه عن التوازن السياسي الذي تحاول من خلاله السلطنة الحفاظ على علاقاتها مع إيران والسعودية، ويرى الكاتبان أنّ المصالح التجارية تظل جزءاً من معادلة العلاقة بين عمان وإيران؛ فجوهر السياسة الخارجية العمانية يقوم على منع أيٍّ من السعودية أو إيران من التفرد بالهيمنة على المنطقة، وقد أدت هذه السياسة إلى حماية عمان من جارتيها الكبيرتين، ومن الإضطرابات الإقليمية، وسمحت لها بالتركيز على التنمية.

ويرى الكاتبان أنّ عمان التي تُعتبر الصديق الوحيد لإيران في دول مجلس التعاون، تحاول الحفاظ على توازن حساس؛ فمن جهة علاقتها مع إيران ومن جهة أخرى علاقتها مع دول مجلس التعاون التي تلتزم معها بمعاهدات واتفاقيات لمكافحة الإرهاب والتبادل الأمني، ويتبع كلّ هذا علاقاتها مع الدول الغربية؛ وهذا يفسر السبب الذي جعل عمان ترفض دعم التحالف الذي تقوده السعودية ضد اليمن؛ "فلم يكن موقف عمان بلا تحديات، خاصةً في العلاقة مع السعودية التي بدت حذرة من العلاقة بين عمان وإيران، وتحفظ عمان لتعاون أكبر مع دول مجلس التعاون، والذي كان كفيلاً بأن يقوي من موقف السعودية الإقليمي".

يقول "سيغريد نيبور" و"أليكس فاتنكا" في مقالهما المشترك، إنّ موقف عمان المحايد، منح السلطان قابوس دور الوسيط الناجح في أكثر من مناسبة، مثل إطلاق سراح البحارة البريطانيين الذين ألقت القبض عليهم إيران عام 2007، كما أسهمت عمان عام 2011، في الإفراج عن ثلاثة رحالة أمريكيين اتهمتهم إيران بالتجسس، لذا فدور السلطنة في المحادثات النووية بين إيران والغرب هو جزء من موقفها المحايد؛ ويرى الكاتبان أنّ اليمن الذي تتنافس فيه إيران والسعودية يظلُّ امتحاناً كبيراً لجهود الوساطة العمانية؛ وفي ما إن كانت مسقط قادرة على الجمع بين الرياض وطهران للتباحث في تسوية، بل إنّ الكاتبين يريان أنّ من أسباب تأخر الوساطة، غياب السلطان قابوس عن الصورة لمدة 8 أشهر حيث كان يتلقى العلاج في ألمانيا، ولا يتوقع الكاتبان للسلطنة اتجاهاً غير الدبلوماسية الناعمة؛ "فهي لا ترغب بوضع نفسها وسط التوترات السعودية - الإيرانية"؛ وبناء عليه ستتبنى السلطنة سياسة من ثلاثة محاور: التعاون الأمني مع الغرب، واستخدام دورها المحايد كجسر بين إيران ودول مجلس التعاون، ومواصلة تعاونها الاقتصادي مع طهران.

لقد قامت عمان بدور أساسي لتقريب وجهات النظر الإيرانية الغربية، وكان جلالة السلطان في مقدمة من قاد جهود الوساطة بين طهران وواشنطن، ولعبت وساطته دوراً أساسياً في الاتفاق المرحلي بين الطرفين، لذا فإنّ نتائج ذلك يجب أن تظهر في العلاقات الثنائية بين عمان وإيران؛ فالمخاطرُ الإقتصادية في السلطنة مع انخفاض أسعار النفط وازدياد عدد العاطلين، وكذلك المخاطر السياسية التي أصبحت تحيط بعمان من كلِّ حدب وصوب؛ تحتِّم على عمان أن تسعى لبناء اقتصاد قوي مع إيران، وكذلك فإنّ تلك المخاطر نفسها تحتِّم على عمان أن تواصل علاقاتها الأخوية الممتازة والقوية مع أشقائها الخليجيين، فلا ينبغي النظر إلى العلاقة مع أيِّ طرف أنه ضد طرف آخر، وإنّما المصالح هي التي تفرض نفسها على الواقع؛ وآن لنا أن ننظر إلى مشاكل الداخل -وهي كثيرة، وآن لنا أن ننظر إلى المستقبل، فنحن محاطون بصراعات وتناقضات عربية - عربية، ليس شرطاً أن يكون حلها بيد عمان، فلدينا في الداخل ملفات كثيرة تحتاج إلى الانكباب عليها، وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي؛ وهو وضع مقلق.

إنّ السياسة الخارجية العمانية تنبع من موقع قدرها الجغرافي، ومن وضعها الاقتصادي، ومن ثم فالمطلوب منها أن توازن بين التناقضات المحيطة حولها دون أن تعطي لنفسها دوراً أكبر من حجمها حتى لا تتورط بما تورط فيه الآخرون.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك