لا يهود.. لا نقود.. لا نفوذ

فؤاد أبو حجلة

في كتابه "وطن من كلمات" يروي الصديق الكاتب عبد الباري عطوان تفاصيل مرحلة صعبة عاشها برفقة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش.

كان عطوان في لندن رئيسًا للتحرير في صحيفة القدس العربي التي كانت من أهم، إن لم نقل أهم الصحف العربية الصادرة في الأوطان وفي المهاجر، وكانت في الوقت نفسه من أفقر الصحف العربية على الإطلاق واقتربت في أكثر من مناسبة من إعلان إفلاسها، وعانى عطوان كثيرا في تأمين مصادر لاستمرارها ودفع رواتب موظفيها وأجرة الشقة الصغيرة التي تصدر منها ويصطدم زائرها بمساحتها الضيقة وفقر فرشها.

في تلك المرحلة كان درويش في باريس يعيش في شقة صغيرة ومتواضعة الفرش، ويواجه مشاكل مالية وصلت حد العجز عن دفع أجرة الشقة، بعد أن استقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم مع إسرائيل، فبادرت قيادة المنظمة إلى حرمانه من مخصصاته المالية.. وأوقفتها.

وقد درج عطوان على الاتصال الهاتفي مع درويش يومياً، ليطمئن على حالته الصحية ويتبادل معه الآراء حول المستجدات. وحدث أن انشغل عطوان بضعة أيام في حل المشاكل المالية للقدس العربي ولم يهاتف درويش، فبادر الشاعر إلى مهاتفة رئيس التحرير معاتباً إياه على الانقطاع عن التواصل.

حاول عطوان تبرير انقطاعه عن الاتصال بعرض المشاكل التي يواجهها في الصحيفة، وفوجئ بشكوى مماثلة من درويش الذي أبلغه أنه لا يخرج من الشقة إطلاقاً لأنه لا يملك ما يُغطي كلفة قضاء الوقت في المقهى.. وقال له إنّ هاتفه لا يرن إلا عندما يتصل به من لندن.

استغرب عطوان هذه العزلة لأنّ درويش شاعر تجاوز المحلية والعربية وكان إلى حد كبير نجماً عالمياً، وسأله عن سبب توقف هاتفه عن الرنين.

أجاب درويش: لا يهود.. لا نقود.. لا نفوذ.

وأوضح أنه بسبب معارضته للاتفاق المشؤوم لا يشارك في أي مفاوضات مع الإسرائيليين ولا يلتقيهم، وأنه بسبب وقف مخصصاته المالية لا يملك المال الكافي لإقامة الولائم، وبسبب استقالته من عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة لا يتمتع بالنفوذ لدى صاحب القرار السياسي والإداري والمالي.. لذا لا يتصل به أحد.

يوم الجمعة هاتفت عطوان، وسألته إن كان هاتفه يرن كثيرًا هذه الأيام. لحظ ما أرمي إليه من السؤال وأكدَّ لي أنه لا يتلقى أي اتصال إلا من الأصدقاء القريبين. وكنت أعرف ذلك مسبقاً لأن الرجل الآن بلا يهود، وقد كان دائماً كذلك لأنّه يرفض المصالحة مع الاحتلال، وهو أيضًا بلا نقود لأنّه يعيش على ما يأتيه من الكتابة، وبلا نفوذ لأنّه لم يعد رئيسًا لتحرير "القدس العربي".

أعرف مرارة الشعور، فقد عشته فترة طويلة، عندما غادرت رئاسة التحرير في صحيفة يومية محترمة لأجلس في بيتي بلا يهود، لأنني كنت وما أزال وسأبقى أحتقر أصدقاء سفارات إسرائيل ومن يصافح الإسرائيليين ويعمل معهم.. وبلا نقود لأن راتبي توقف.. وبلا نفوذ لأنني أبعدت عن رئاسة التحرير فلم تعد لدي خطوط مفتوحة مع المسؤولين.

لكنني، وأظن عبد الباري يشاركني هذا الشعور، أحس بأنني أكثر هدوءًا وأكثر راحة بعد أن تخففت من مسؤولية حفظ "التوازن بين ما يجب"، ولم أعد مضطرا للذهاب إلى اليمين أو التوجه لليسار أو التمترس في الوسط.. أو الدفاع عن الغلط.

أنا الآن حر.. ولا أفعل "ما يجب". وبصراحة بدأت أفكر جديًا في تعلم مهنة ميكانيا السيارات لأنني أرى فيها مهنة مريحة وتحقق دخلا عاليا وتريح صاحبها المتشحم اليدين من مصافحة متشحمي الضمائر.

لا بأس يا عبد الباري. لن نموت جوعا، ولن تحاصرنا العزلة، وسأظل أهاتفك لكي.. يرن هاتفك.

تعليق عبر الفيس بوك