أطوار القراءة

ليلى البلوشي

"يجب أن تكون الكتب ثقيلة؛ لأنها تخفي كل العالم".. هذا ما ذهبت إليه الروائية الألمانية كورنيليا فونكه صاحبة الرواية الشهيرة، والتي حُوِّلت إلى فيلم فنتازيا ساحر "قلب الحبر".

لكن هذه الكتب الثقيلة كيف يمكن أن يقرأها الإنسان؟ هل يُوجهها أسلوب قرائي معين يسعى له القارئ الشغوف؟

أوقن دائما بأنَّ لكل كتاب طريقة ما، أسلوبا معينا لفضِّ ما فيه. بعض الكتب تُقرأ في جلسة واحدة وأخرى على امتداد جلسات، وكتب أخرى تستحوذ على حواس القارئ من العتبة الأولى للنص وتحتضن دهشته الأولى التي تتعاظم كلما امتدت حواسه في أحشاء النص، وأخرى تختبر صبرك كقارئ وتجبرك على أن تقطع أشواطا حتى تجسّ لذة سردها، فـ"وقت القراءة مختلس دائما كوقت الكتابة ووقت العشق" كما يرى دانيال بناك صاحب كتاب متعة القراءة.

الباحث والناقد عبدالفتاح كيليطو في كتابه (الأدب والغرابة) يذهب في حديث مسهب عن كيفية قراءة الكتب، فهو يرى أن الحكاية تقرأ قراءتين، القراءة الأولى هي القراءة العادية، أما القراءة الثانية فهي القراءة العالمة.

القراءة العادية تتم من اليمين إلى اليسار، أي من البداية إلى النهاية وهي القراءة التي اعتاد عليها القارئ. أما القراءة العالمة فهي القراءة التي تتم من النهاية إلى البداية، ومن اليسار إلى اليمين؛ ويفسر قوله بأن هذه القراءة تجعل القارئ يلمس البناء السردي عن كثب بل تجعله يعيد صياغة الحكاية بعد تفكيك مكوناتها.

لكنَّ التحدي الحقيقي يظهر في الفارق ما بين القراءة العادية والقراءة العالمة؟

فالقراءة العادية التي اعتاد عليها القارئ العادي تشّد بخناقه وتجعله يبتلع الأحداث دون مضغ ويقفز الصفحات، لكي يصل أخيرا إلى النهاية التي يتلهف على معرفتها، هذا التلهف لإنهاء قراءة الكتاب يدفع القارئ العادي ضريبته غاليا؛ ذلك لأنه يجري وراء الوهم، هذا الوهم يفقده انضباطه وتحكمه في نفسه ويعيش فترة استلاب.

أما القراءة العالمة، فهي القراءة التي تحرر القارئ من الوهم، ومن المشاركة الوجدانية وترفعه إلى مرتبة تجعله يشارك لا الشخصيات بل القائم بالسرد نفسه.

القارئ هو طموح كل الكُتّاب؛ فالكتاب بلا قرَّاء أشبه بمدرسة بلا طلاب، وكل كتاب ينجب قراءه، سواء كان قارئا عاديا أم قارئا عالما؛ لذا ما طرحه كيليطو في كتابه عن القراءة العادية والقراءة العالمة تخضع بالدرجة الأولى لنوع الكتاب وجنسه الأدبي؛ فالكتب الموسوعات والتاريخ والرحلات وبعض الروايات تتطلب جهدا أكبر لفهمه مقاصدها، لاستيعاب كثافة المعلومات التي تحويها؛ لذا تتوق لقارئ عالمي يقدّر ما طرحه ويستوعب كمية الجهد المبذول، قارئا مكتشفا، ليس لأنه أثناء القراءة يكتسب معلومات فحسب، بل يقوم بفطنة ويقظة بتحليلها وربطها ببعض واكتشاف مكامنها السرية، تمده الصفحات بكثافة مقابل وعيه أثناء القراءة، بينما ثمة كتب كالمجاميع القصصية وبعض الروايات وكتب الأشعار تتطلب الحالة الوجدانية للقارئ بقدر ما تتطلب أيضا يقظة قرائية فاعلة في دائرة النص؛ لذا أرى أنَّ القراءة العالمة هي حاضرة دائما، ولكن حضورها ضمني متفاوت من قارئ إلى آخر تبعا لوعي القارئ وتغذيته لنفسه بقراءات موسعة في مجالات شتى، بينما القراءة العادية تكون مسموعة أكثر وحاضرة أكثر.

القراءة العالمة تتطلَّب قارئا عالما بمكونات السرد وأصول الحكاية، لديه خلفية نقدية، بينما القراءة العادية تختصر في القارئ العادي العابر الذي تكون صلته بالكتاب أيضا عابرة، الكتاب الذي يكون وليد الصدفة لا وليد الرغبة والسعي كما في القراءة العالمة عند القارئ العالم.

القراءة العادية هي غير متطلبة وخارج دائرة الشروط، هي قراءة خاصة وليست عامة، تكون علاقة القارئ بالكتاب عابرة وغايتها تختصر في جلب المتعة لنفسه ودفع الملل، لا سيما وأننا في الزمن صار فيه معظم القراء تابعين لا مكتشفين، في زمن صارت الدعاية هي الطريق إلى الكتاب كما أشار ناشر أمريكي ذات مرة: "أسوأ قارئ هو الذي يشتري الكتاب لأن الآخرين قد تحدثوا عنه ولكن للأسف فهذا القارئ هو رأسمال دور النشر العالم".

بينما القراءة العالمة هي قراءة عامة، تستدعي وجود قارئ طموح تكون القراءة لديه مشروعا كمشروع زراعة شجرة، هذا المشروع قابل للتطور والنمو على مدى الأيام، تخرج من طور المتعة إلى طور المشاركة، لتجلب منفعة لنفسها وللآخرين أيضا. بمعنى هي القراءة التي تنجب مع الزمن قارئا بمرتبة كاتب أو باحث أو ناقد تبعا للتوجهات القرائية.

لكل منا طور من أطوار القراءة، ووحدنا نحن -القراء- نحدد مرتبتها و نمضي لاستكمال دربها الساحر.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك