وللباب حورة...!

عائشة البلوشيَّة

مال قرصُ الشمس الآخذ في الاحمرار إلى الغروب؛ فعاد إلى منزله الواقع في أطراف إحدى حارات عبري القديمة، كان يجرُّ قدميه جرًّا من شدة التعب بعد يوم عمل شاق في صناعة الطفال (جمع ومفردها طفالة، وهي الطوب المصنوع من خليط الطين اللبن والقش والماء، ويستخدم في البناء)؛ وﻷنَّ المدنية والتحضر لم تصل إلى سلطنة عمان في تلك الحقبة الخمسينية من القرن الماضي، فإنَّ الآلات تعد ضربا من الخيال؛ حيث كانت جميع الأعمال يدوية، فإذا جئنا إلى حرفة صنع الطفال تبدأ من استجلاب الطين من إحدى البقع المحددة لجودة طينها المتماسك، إلى موقع البناء على ظهور الحمير -أجلكم الله- ويُعد طين قرية "الغبي" الواقعة غربي قرية العراقي هو الأجود على الإطلاق، ومثلما أسلفت في مقال سابق فإن الحصول على ملء ثوج واحد فقط يحتاج إلى بروة ممهورة بختم الوالي لمن يسكن خارج الغبي، ويقوم الصناع بعدها بخلط الطين بالماء والقش؛ ليصبوه في قوالب مستطيلة الشكل حتى يتماسك، ومن ثم يُترك ليجف تحت أشعة الشمس والهواء الجاف.

وﻷخرج بكم قليلا عن النص، فإنَّ لي وقفة مع قرية "الغبي" بالذات، فاسمها جاء من "الغبِّة" بتشديد الباء مع الكسر، وتعني بركة الماء الضحلة، وهذه القرية بالذات ذات تربة طينية متماسكة لا ترشح الماء إلى باطن الأرض بسهولة، لذلك عرفت بالغبي لكثرة الغبيب بها بعد مواسم المطر، وكان سكانها يعرفون بلقب واحد وهو "السري"، نسبة إلى هذه البقعة السرية، حتى إن أجدادنا كانوا يضيفون لقب "السري" بعد القبيلة لانتسابهم إليها، وفيها الكثير والمثير من الآثار الآخذة في الإندثار، وعودة إلى بطل القصة نجده يمشي مثقلا وحالما بوجبة من التمر والكامي الطازج "الجبنة القريشة" المغطى بالسمن العماني، وسف خبز مصنوع من البر، لاسيما وأن رائحة الخبز تعبق بالأجواء في هذا الوقت من اليوم بالذات، عندما تبدأ النسوة في تحضير وجبة العشاء قبل غروب الشمس، ويعد الخبز العماني (الرقاق) هو أهم مكونات الوجبة، وفي أحيان كثيرة يكون هو الوجبة الرئيسية؛ فكان يمشي ويسلي عينيه بالنظر إلى ظلال النخيل الآخذة في الاستطالة، وعندما بدأ في الاقتراب من منزله أخذ ينظر إلى مدخل المنزل، وحدقتا عينيه تزداد اتساعا من هول المفاجأة.

وَصَل بطل هذه القصة الحقيقية إلى باب منزله الذي كان عبارة عن ردة واحدة مصنوعة من الخشب الثقيل مطعمة بالحديد، ولم يجد بابا!! ظن أنَّ الجوع والتعب بعثا به إلى عالم الهلوسة، فنادى بأعلى صوته على زوجته، والتي غسلت يديها من العجين على عجالة وجاءت راكضة، فسألها عن باب الدار: أين ذهب؟، وصعقت هي الأخرى ﻷنها لم تلحظ اختفاءه، فأردفت على الفور بأنها لا علم لها، فالعادات في كل عمان لدينا بألا يُغلق باب الدار الخارجي إلا ليلا، لذلك لم تدرك أن باب الدار غير موجود لانشغالها بأعمال المنزل.

وبالرغم من جوعه وتعبه، ركض إلى جاره يسأله إنْ كان له علم بمن سرق باب داره، وعندما لم يجد ما يشفي غليله، استعار -أجلكم الله- حمارا، وركب ميمِّما إلى العراقي ليلتقي عبدالله بن سيف -رحمه الله- لعمل حورة جلب للباب؛ فقال له عبدالله إنَّ باب بيته موجود لدى الشخص الذي اقتلعه من مكانه، لذلك توكل على الله وعد إلى بيتك وسيأتيك الباب محمولا في موعد أقصاه صباح الغد بإذن الله، وعاد مطمئنا بعدما صلى العتيم (العشاء)؛ فوصل بيته وأكل وجبته ورمى بجسده المنهك أمام الباب المسروق وذهب في سبات عميق، وبينما هو بين الحلم واليقظة؛ حيث بدأت خيوط الفجر تنسج بياضها على صوت أذان الفجر، إذا بصوت نشيج وبكاء متألم يتناهى إلى سمعه، وبدأ يلملم شتات وعيه واعتدل جالسا في مكانه فرأى رجلا يقف أمامه حاملا الباب، وهو يقول: "لعنك الله أنت وباب منزلك اللعين، فلا أنا بعته ولا أنا استطعت أن أنزله من فوق رأسي؛ حيث ظللت طوال الليل أجول مختبئا في ضواحي النخيل المظلمة خشية أن يراني أحد ويذهب بي إلى الوالي، محاولا أن أنزل هذا الباب، وقد تخشب ظهري وتيبَّست يداي بسبب ثقله، وعندما رأيت حالي على هذا المنوال، علمت أنك لابد وأنك ساحر ونحن لا نعلم، أو أنك قد وصلت العراقى إلى عبدالله بن سيف لدى البلوش، فقام بعمل حورة جلب لباب منزلك، وأنا أستميحك عذرا وأعلن لك التوبة النصوحة، وأرجوك أن تذهب بي إلى الوالي؛ فالسجن أحب إليَّ وأرحم من هذا العذاب"، فقهقه صاحب البيت من فرط فكاهة ما لم يتوقع سماعه، وبعودة باب بيته وقال له: "أنزل الباب، وأعد إصلاح ما أفسدته، وإياك أن تفعلها ثانية، وإذا قرصتك الحاجة فتعال وأخبرني أو أخبر أي شخص وستجد الطعام والزاد من الجميع، وإلا ستجد ما لا يرضيك"، فرمى بذلك الباب الثقيل جدا وهو يئن من فرط ألمه، وبرك على الأرض خائر القوى وهو يعد بأنها آخر مرة سيمد فيها يده إلى الحرام....!

توقيع: "مواقف الحياة أبواب، ونحن من نحدد من أيها نلج لنعمر أو ندمر".

تعليق عبر الفيس بوك