العُميان

مريم العدوية

"اعلموا أيها القراء الكرام أن السخرية ثلاثة أنواع: السخرية من الذات وهي سخرية المتواضع، وسخرية من الأقوياء وهي سخرية الشجعان، والسخرية من الضعفاء وهي سخرية الأنذال" غازي القصيبي

تصل إلينا كل يوم الكثير من مقاطع الفيديو أو الصور التي تصور مواقف لبعض الناس -الذين غالبًا- ما يكونون مجهولين بالنسبة لنا، حيثُ العديد من المواقف يتم تراسلها تحت بند الدعابة. سواء كان صاحب المقطع أو الصورة يجسد الموقف الذي عنونه المرسل أم كان المرسل فقط من يلبسه ذاك الموقف. ووصل الأمر حتى لعالم الحيوانات. فأصبح البعض يلتقط صوراً لها أو يجمع مقاطع لها ويرسلها من باب الدعابة وإثارة الضحك.

وصورة من أخرى ومقطع من آخر يختلف. ولكن دعنا لنختصر الحديث عن تلك المقاطع التي تدعي بأنّها وليدة الدعابة بينما باطنها مليء بالكثير من السخرية بل وأحياناً كثيرة الإيذاء المعنوي والمادي للآخر.

السخرية هي: "طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة. وهي النقد والضحك أو التجريح الهازئ. وغرض الساخر هو النقد أولاً والإضحاك ثانياً، وهو تصوير الإنسان تصويرا مضحكا: إما بوضعه في صورة مضحكة بواسطة التشويه -الذي لا يصل إلى حد الإيلام- أو تكبير العيوب الجسمية أو العضوية أو الحركية أو العقلية أو ما فيه من عيوب حين سلوكه مع المجتمع، وكل ذلك بطريقة خاصة غير مباشرة. عندما تستعمل السخرية بنية عدوانية جداً تسمى (التهكم)".

فصورة رجل وامرأة -على سبيل المثال لا الحصر- في سن الشيخوخة مع مقطع لعجوز تسب زوجها المسن، أو كلام لاذع بالسخرية وما شابهها على الصورة، ناهيك عن الذين يصل بهم الأمر إلى التنكيل ببعض الحيوانات ويدعون أنهم يقومون بذلك من باب الدعابة والمزح ليس إلا. وإن كان الضحك شيم السعداء والمتفائلين في الحياة فإنّ له قواعد وأخلاق لا يحيد عنها. فليس من المنطقي أبداً أن تكون أعراض الناس ومشاعرهم مصدراً للضحك والدعابة إلا لضعاف العقول والأخلاق على حد سواء. وأتساءل كثيراً لماذا لا يضع أولئك أنفسهم مكان الناس؟ ثم ليتساءلوا إن كانوا سيرضون على أنفسهم أم لا!.

ولماذا يكون بالأخص الآخر البعيد عنّا باللون أو الجنسية أو العرق مدعاة للسخرية في نظرنا! وللأسف فإنّ القائمة الطويلة لسلبيات وسائل التواصل الاجتماعي يأتي هذا الأمر على رأسها. فلقد جعلت من الأمر متاحاً بل ويصل حتى لأولئك الذين ينفرون منهم على الدوام حتى بدأوا يألفونه بل ويعتادون عليه!.

يقول الله تعالى في سورة الحجرات: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) صدق الله العظيم، كما ورد كذلك في الأحاديث النبوية ما يؤكد على الأمر ففي الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "الكبر بطر الحق وغمص الناس" ويروى: "وغمط الناس" والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام ، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له. كما أن هذه العادة التي باتت وكأنها بديهية جداً وتخلو من كل المساوئ تربي في النفس الكِبر والبطر وتعمي البصيرة.

حيثُ تتربى (الأنا) على أنها أفضل من الآخر، فتنظر إليه بفوقيه ونرجسية ولا تنفك تترفع كالبالون حتى تنفجر مدويّة عن لا شيء. ومن جانب آخر فإنها تصنع البغضاء والحقد والعداوة بين الناس وتشغلهم عن النظر إلى الأمور بحكمة وتعقل؛ فتصبح أوجاع الناس ومآسيهم أضحوكة ودعابة لنا.

إنه لأمر مزعج أن تكون هفوات البعض غير المقصودة مياهنا العكرة التي نصطاد منها بشغف، ناهيك عن الزيف والكذب الذي تفتعله الفبركة في الكثير من الأحيان، فينام البعض مطمئن الحال ويصحو وإذا به نجم رسائلهم وتغريداتهم اللاذعة من غير حول منه ولا قوة!.

قال أحد السلف: "لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا".

ولله در الشاعر حين قال:

احفظ لسانك لا تقل فتبتلى * إن البلاء موكل بالمنطق

تعليق عبر الفيس بوك