نقد الحال الراهن (21) الانضباطية

د. صالح الفهدي

دعوتهُ في أحدِ المقاهي فلم يزدِ عن طلبِ فنجانِ القهوةِ، وحينِ ألححت عليه أن يختر شيئاً ما إلى جانبها قال: إنني ملتزمٌ ببرنامج تخسيس الوزن وعليّ أن انضبط، وقد خسرتُ بضع كيلوجرامات خلال أيامٍ يسيرة.. في الحقيقة هو لم يخسر إنّما ربحَ في خسرانه الوزنَ بالانضباط.

إن لم يكن لنا من إنجازات مرموقة في الحياةِ وكان لنا إنجاز واحد فقط نفتخرُ به لأنفسنا وللجيل الحاضر هو: الانضباط..! أقولُ ذلك لأنّ الانضباط هو أساسُ كلّ شيءٍ في الكونِ والوجودِ والتفكيرِ والرغبات، فالكونُ مضبوطٌ في كلِّ حركاتهِ، يسيرُ وفق نواميسَ دقيقة"لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"[1]، والعبادات كلّها أساسها الانضباط فإن جانَبها ضلّ المسلم، كذلك التفكير الذي إن حادَ عن الانضباط زاغ، والرغبات إن تحايلت على الانضباط انحرفت..! الإنسانُ بصورةٍ عامّةٍ إن لم ينضبط أصبح كالذرّة الضّالة..! يقول ستيفن كوفي "من يفتقر إلى الانضباط يكون كالعبد الذي يخضع لمختلف الحالات المزاجية والشهوات والأهواء". ويعرف كاب ماير Kopmeyer الانضباط الذاتي بأنه:"أن تحمل نفسك على أن تفعل ما يجب عليك أن تفعله، عندما يجب عليك أن تفعله، سواء أعجبك ذلك أم لا ".

هذه واحدةٌ من أكبر الظواهرِ المَرضيّةِ في مجتمعاتنا، فإن طَعِمِ الواحد منّا أغرقَ نفسه بالطّعامِ حتى يتخم..! وإن سهرَ أفرطَ في السّهرِ، وإن لعبَ نسيَ نفسه، وإن جلسَ في مجلسٍ مضى به الوقت ساهياً، وإن جلسَ أمام التلفازِ غفلَ، وإن انفعلَ أسرفَ في انفعالاتهِ، وإن خاصمَ أصبحتَ الدنيا سواداً كئيباً في قلبهِ قبل عينيه، وهكذا كلّما أقبَل على أمرٍ يندرُ فيه الانضباط، فيزيدُ ذلك من الضررِ بالصحّةِ، والتبديدِ في الوقتِ، والإضاعةِ للطاقة، والهدرِ في الموارد..!

ديننا أساسُ الانضباط لكنّنا لم نعِ جوهرَ الدّينَ بل وعينا قشوره في أكثرَ المظاهر، فمما يذكر أن حوارًا جرى بين طبيب ألماني وصحفي مسلم في إحدى مستشفيات ألمانيا، قال الطبيب الألماني للصحفي المسلم: ما سبب تأخر المسلمين عن الحضارة والنهضة؟ فأجابه الصحفي المسلم - بالهوية فقط - : إن سبب تأخر المسلمين هو الإسلام، فأمسكه الطبيب من يده، وذهب به إلى جدار قد عُلقت عليه لوحة، فقال له: اقرأ الكلمات المكتوبة على هذه اللوحة، فإذا فيها الحديث الشريف الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه...)، وعند نِهاية الحديث قد كُتب، القائل: محمد بن عبد الله، فقال الطبيب الألماني للصحفي المسلم: أتعرف هذا؟ قال: نعم هذا نبينا، فقال له: نبيكم يقول هذا الكلام العظيم، وأنت تقول: إنّ سبب تأخركم هو الإسلام!! وختم الألماني الحوار بقوله: للأسف إن جسد محمد عندكم، وتعاليمه عندنا!!

ما الذي فهمناهُ من ديننا..؟! وهو قائمٌ في الأصلِ على الانضباط، كقوله تعالى:"فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك"[2]وقول نبيه الكريم عليه السلام "مَنْ ضَمِنَ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ ورجليهِ ضَمِنْتُ لهُ الجنَّة "[3]، وكل أمرٍ أو نهي فيه هو تعليمٌ للانضباط، والانضباط هو القدرة على التوازن الواعي الحصيف بين تلبية رغبةٍ وكبحها، وإصرارٍ على تحقيق هدفٍ مهما كانت المُعيقات والمُغريات، وحمل النّفسِ على المشقّةِ لأجل تحقيق أسبابِ السعادة.

كم حالمٍ في مجتمعاتنا يغوصُ في أحلامهِ الورديّة خيالاً..؟! وكم من حلوِ لسانٍ إن سمعته لقلت إنّه سيملكُ العالمَ بما يبديهِ من حسن منطقٍ وبديعِ كلام، وكم من ينتقدُ وضعه ويتذمّرُ من حالهِ لكنّ هؤلاءِ جميعهم يفتقدون إلى الانضباط في حياتهم، ولذلك فهو يدورون في نطاقِ الأحلامِ والكلام..! يقول Jim Rohn: "الانضباط هو الجسر بين الأهداف والإنجاز.

أُنظر إلى المقاهي ستجدُ فيها كمّا كبيراً من الشبابِ أدمنَ التسكّعَ فيها بصورةٍ يوميّةٍ، وكأنّ الحياةَ ليستَ إلا مقهى..! وأنظر إلى آخرين وقد أدمنوا شيئاً اسمه كرة القدمِ فهم بين لاعبٍ مسرفٍ، ومتابعٍ شغفْ لا يمرُّ عليه ليلٌ أو نهار إلاّ وقلبه منشغلٌ بها، وكأن الحياة ليست إلاّ ملعباً كبيراً..! وتمعّن فيمن يلعلع بالحريّةِ وينادي بها مطلقةً في كتابةٍ، أو سلوكٍ، رغبة، أو تقليدا فتظنُّ أن الحريّةَ في أصلها ليست إلاّ انفلاتاً من كل القواعدِ البشرية، بل هي أضلُّ حتى من البهيميّة..! يقول Mortimer J. Adler :"الحريّة مستحيلةٌ دون عقلٍ منضبط". وانظر إلى بعض الشبابِ العاملِ وهو لا يكترثُ لأدنى درجاتِ الانضباط فيه، ومع ذلك يتشكّى ويتباكى..! وانظر إلى من لا يكبحُ جماحَ لسانهِ أو قلمه ليخوضَ في الأعراضِ، ويُصدرَ التّهم، ويكيل الوشايات، وهو يفتقدُ في ذاته لأقل درجات الانضباط..! وانظر إلى مبتديءٍ في مشروعٍ لا يجدُ في نفسهِ من العزيمةِ والصبرِ والمثابرة ما يعينه على مواصلةِ مشروعهِ والتطويرِ فيه. يقول توماس جيفرسونThomas Jefferson: "كلما جهدت في عملك أكثر كلما صرت الأوفر حظا". وانظر إلى المدخّن الشَّرِه، وهو يملأ جسدهُ دُخاناً أو الثمل النشوان وهو يعربدُ سكراناً يحسبان كلاهما أن في ذلك حلُّ لجميعِ المشكلات..!! وانظر إلى ذلك الذي يحسبُ أنّه ينتهكُ القانون وهو في الحقيقةِ ينتهكُ نفسه أمام القانون ..! وانظر إلى دولٍ لا تعرفُ الانضباط في حلِّ مشاكلَ جوهريّةٍ في حياةِ شعوبها، فتحسبُ أن المشاكلَ تُنهي نفسها بنفسها مع مرور الزّمن، في حين أنها تتفاقم حدّةً واحتدامًا..!

وإذا كان الانضباط لغةً هو لزومُ الأمرِ وعدم مفارقتهِ وضبطهِ بالحزم[4]فهو أدباً وسلوكاً الالتزامُ بالمبادئ القويمة التي لا غنى عنها للإنسانِ في تحقيق إنجازاتهِ في الحياةِ، وهو التقيّدُ بالوجهةِ السليمةِ المرسومة للوصول إلى الغايات السامية، ينبعُ من احترامِ الإنسان وتقديره لنفسه فلا يرميه مرامي الهوى، ولا يلقيها في مواطنِ الضياعِ، ولا يتركها ترعى دون قيد.

لا يمكنُ لأي إنسانٍ أن يصلَ إلى النجاح، وأن يحقق الإنجاز إلا بالانضباط الذي يستلزمُ التضحيات الجسام، والمشاق العظام، يقولُ شوقي:

بصرتَ بالرّاحةِ الكبرى فلم ترها .. تُنالُ إلاّ على جسرٍ من التّعبِ

يقول محمد علي جناح مؤسس باكستان: " بالإيمان والانضباط والتفاني ونكران الذات في أداء الواجب، لا يوجد شيء جدير بالاهتمام لا يمكن تحقيقه". كما لا يمكنُ لمجتمعاتنا أن تعي مسؤولياتها الحضارية، وتنافس في نهضتها التنموية، دون أن تعي معنى الانضباط وتجعلهُ شعاراً لها في كل أمرٍ من أمورِ حياتها، وإلاّ فقدت أُسس نهضتها، وركائز تنميتها، فتصبحُ دائرةً في فلك الكلام، بديعةً في العتبِ والملامِ، واجترارِ البطولات الجسام، للماجدين العظام..!.



[1]يس/40

[2]هود/ 112

[3]رواه البيهقي

[4]تاج العروس

تعليق عبر الفيس بوك