عزلة

عهود الأشخري

الإنسان بطبيعته يحب أن يغادر كل الأشياء في أحيانٍ كثيرة، ويحب أن تغادره جميع الأشياء؛ ذلك لأنه الملجأ الآمن لذاته دائما حسب ما يظن، ولأن التوقف عن التواصل مع البشر يؤدي إلى راحة تلقائية، هذه هي الفكرة السائدة عن العزلة، وهذا يفسر حالات كثيرة من هرب الإنسان إلى مكان بعيد إن أمكنه ذلك حين يشعر بتعبه من الوجود، تعبه من اللاجدوى، إضافة أيضا إلى التعب من الروتين اليومي والذي به يشعر الشخص أنه يفقد نفسه شيئا فشيئا. يقول عبدالعاطي الخازن في العزلة "في المقهى، سئمت الجلوس إليَّ، كم هي ضيقة طاولة الليل حين ترشفني الفناجين الزكية بالبن والدخان. لا أعرف شيئًا عن العزلة، ولا عن الحب، غير أن بي رغبة لأنسى قلبي فوق الطاولة وأرحل".

"إن كل إنسان في هذا العصر يجهد في سبيل أن يتذوق الحياة كاملة مبتعدًا عن أقرانه، ساعيًا إلى الحياة الفردية، ولكن هيهات أن تودي هذه الجهود إلى تذوق الحياة كاملة، فهي لا تقود إلا إلى فناء النفس فناء كاملا، ولا تقود إلا إلى نوع من الانتحار الروحي بعزلة خانقة. لقد انحل المجتمع في عصرنا إلى أفراد يعيش كل منهم في جحره كوحش، ويهرب بعضهم من بعض، ولا يفكرون إلا في أن يخفوا ثرواتهم عن بعض. وهم يصلون من ذلك إلى أن يكره بعضهم بعضا وإلى أن يصبحوا جديرين بالكره هم أيضا. إن الإنسان يكدس الخيرات فوق الخيرات في العزلة وتسره القوة التي يحسب أنه يملكها بذلك، قائلا لنفسه إن أيامه قد أصبحت بذلك مؤمنة مضمونة إنه لا يرى لحماقته، وإنه كلما أوغل في التكديس كان يغوص في عجز قاتل. ذلك أنه يتعود أنه لا يعتمد إلا على نفسه، ويفقد إيمانه بالتعاون، وينسى في عزلته القوانين التي تحكم الإنسانية حقا ، وينتهي إلى أن يرتعد كل يوم خوفا على ماله الذي أصبح حرمانه يحرمه من كل شيء"، لا تكاد تغادرني فكرة هذا الاقتباس الذي قرأته لدوستويفسكي في الفترة التي كنت أؤمن فيها بأن الإنسان يحتاج دائما أن يهرب إلى ذاته، إلى عالمه الذي يخصه بعيدا عن الآخر، كانت العزلة في نظري مُقدسة جدًا وأظن أنها إلى الآن لكن ليس بالطريقة التي يفهمها غالب البشر أو كنت أفهمها شخصيا، حيث إنها لا تحتاج إلى كل تلك المتطلبات الغريبة، بأن أكون في مكان ما من هذا العالم، في خلوة مع نفسي ولا أحد يمكنه أن يشاركني هذه الفترة؛ بالطبع ليست بهذا المفهوم حيث إنني يمكن أن أجد عزلتي وأنا وسط الكثير من البشر. دوستويفسكي لخص هذه الحالة في أن هذه العزلة التي يريدها الناس قد لا تؤدي بهم إلى هدف خيّر بل العكس تماما، حيث إن حالة الانعزال عن الآخر مفرطة جدا للحدّ الذي يجعل الشخص يفقد إيمانه مع الآخر، يتلاشى منه العالم يوما بعد يوم حتى يبقى في معزله الخاص، الذي ظنّ أنه يمكن أن يصبح فردوسا له.

وهذا كله لا يعني أنني أدعو إلى الاختلاط بالآخر إلى حدّ كبير، أو التدخل في شؤونه، لكنني أدعو إلى فهم العزلة بصورة صحيحة؛ فالعزلة إلى حدٍ ما هي الخروج عن رأي الجماعة، وعن الأفعال والأفكار السائدة إذا كانت في غالبها خاطئة، وهو بذلك يشكل فكرًا مستقلًا، ويدفع عقله إلى القيام بدوره عوضا عن حالة الجمود التي يمكن أن يغوص بها، وهو في الأساس لا يدرك أنّه دخل في هذه الحالة من الجمود أو التوقف عن التعاطي مع الفكرة. فهو بخروجه ووقوفه ضد الأفكار السائدة بذلك يكسر حالة المألوف وينتقل إلى أن يشق طريقه الخاص في جميع ما يمر به في عالمه، بطريقة أخرى، العزلة أقرب إلى أن تعنى بمواجهة الآخر بعد مواجهة الذات، لكن هذه المواجهة يجب أن تكون وفق معطيات يمكن اختصارها في الوعي الذي أيضاً يجب على الإنسان أن يكون مدركا إذا كان وعيه الخاص يمكن أن يؤدي به إلى قرارات وخيارات صائبة غالباً، إضافة إلى أنه لا يجب أن يتمسك بقناعة هزيلة جداً لا تمت لهذا الوعي بصلة؛ والسبب الأساسي في ذلك افتقار الإنسان إلى الإطلَّاع الكافي الذي يتأتى بالقراءة؛ قراءة كتاب الحياة قبل أي كتاب آخر. هذا ما كان يريد أن يقوله سعود السنعوسي في أحد فصول روايته ساق البامبو التي حققت رواجا عالميا حين قال: "العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله، حيث لا مفر من المواجهة. وعقلي يكاد يضمر مثل عضلة مهملة لولا إفراطي في استخدامه قط، فأنا لا أثق فيه وهو مصدر شكي وريبتي في كل شيء. لعله هو من تلقاء نفسه شعر بالإهمال فانتفض، من أين للهواجس هذه القدرة على صرفنا من كل شيء عداها؟".

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك