الحورة والباصر

عائشة البلوشية

قرأنا الكثير والكثير عن الشخصيات التأريخية، في الأدب والشعر والفكاهة والسخرية والهجاء والشجاعة إلى آخرها من الصفات التي تلتصق ببعض البشر نعتًا، حيث كانت كتبنا الدراسية تحوي قصصًا عن جحا وأشعب وغيرهما الكثير، وموروثنا العُماني الرائع هو مخزون كبير للقصص الواقعية، ولكنها ﻻ تتعدى التناقل الشفهي حتى تضمحل وتصبح نسيًا منسيًا، لذلك وخروجًا بكم من دائرة الحاضر سأرجع معكم إلى القرن الماضي وأقص عليكم بعضًا من حكايات رجلٍ عاش في بلدتي الحبيبة "العراقي"، وأنا على يقين تام بأنّ هنالك استنساخ لهذه الشخصية الموهوبة في جميع محافظات السلطنة في ذات الحقبة الزمنية، ولحسن حظي أنني حظيت بالتعرف عليه في الفترة الأخيرة من حياته، عندما كان يبيع لنا الحلوى والدنجو(الحمص الصغير) والسبال(الفول السوداني) وحل التراب (السوﻻر) في ذلك الدكان الصغير المبني من الطين، وﻻزلت أحفظ قسمات وجهه الشبيه جداً بـ(دمبلدور)، ذلك الشيخ الكبير الذي جسَّد شخصية مدير المدرسة في سلسلة أفلام هاري بوتر الشهيرة، وأتذكر تلك النظرة العميقة الحادة التي يحدجنا بها ليعرف شخصياتنا دون الحاجة لسؤالنا عن أسمائنا...

نسجت العديد من الحكايات حول "عبد الله بن سيف" رحمه الله وغفر له، وذلك ﻷنّ له قدرة عجيبة على الوصول إلى ضالة الشخص الذي يلجأ إليه، فمنهم من اتهمه بالسحر، وغيرهم وصمه بالدجل، وكنت أرهبه وأخشى الذهاب إلى دكانه، ولكن جدي الشيخ سويدان بن محمد نهرني عندما أخبرته بما يقوله الصغار عنه، وأوضح لي أنّ ما يُنسج حوله هو محض افتراء، وأن الرجل لديه علم وحباه الله تعالى بملكة دون غيره من الناس، لذلك كان يعد من أفضل من يقومون بعمل "حورة الجلب" في المنطقة، وذلك ﻷنّه ﻻ يكتفي بإعادة ضالة الشخص، بل يُلقن السارق درسًا ﻻ ينساه طوال حياته، والمقصود بحورة الجلب هنا هي أن يفقد شخص ما شيئًا من ممتلكاته، أو أن تنقطع أخبار مسافر، فيذهب صاحب الطلب إلى الباصر، الذي يقوم باستخدام بعض الحصى أو الخرزات أو الأعواد وبعض الحسابات ويُعيد الضالة بقدرة الله، أو يُعطيهم من المعلومات ما يُفيدهم عن مكان وجودها...

انشغل الأجداد قديماً بالعلوم وتطوير قدراتهم، حيث ترتبط هذه الملكة بالفراسة والذكاء الحاد، إضافة إلى العلم الغزير، ولذلك كان هنالك العديد منهم في السلطنة، حتى أنهم كانوا يورثونها ﻷبنائهم، أما اليوم فقد شغلتنا الحياة المعاصرة عن استخدام أبسط العمليات العقلية مثل التذكر والعمليات الحسابية البسيطة، فأصبح الواحد منِّا يفتح قائمة الأسماء في جهازه ليتصل بصديق أو قريب، بعد أن كنّا نحفظ أرقام الأهل والأقارب والمعارف عن ظهر قلب في الماضي القريب، وأصبحت الآلة الحاسبة في أجهزة الهاتف أسرع ما يمكننا الوصول إليه لحساب بعض من حاجيات ابتعناها من السوق، فضعفت بعض الملكات لدينا ﻷننا ﻻ نستخدمها، وهذه إحدى ضرائب الحياة العصرية...
وحتى لا أطيل عليكم سأحكي لكم رواية عن عبد الله بن سيف، أخبرني بها جدي طيب الله ثراه، حيث قام رجل باستطناء (شراء محصول التمر لموسم واحد فقط يعرف بالطناء) بعض النخيل، وكان ذلك الرجل يمتع ناظريه بفرح بعذوق الرطب كلما مرّ بجوار نخلته، وعندما حان موعد الجداد ذهب إلى نخلته ليجدها خالية تمامًا، وبعدما سأل مالك الضاحية عن الفاعل، ولم يجد سارق التمر، ذهب إلى بيت عبد الله بن سيف طالبًا الغوث، فطلب منه أن يدله على النخلة المقصودة، فخرجا من فورهما، وصاحب التمر يتحسَّر بأنه قد رتب أمر بيع المحصول ليعتاش منه وعياله، وعندما وصلا إلى النخلة المقصودة نظر إليها عبد الله رحمه الله، ثم نظر إلى الأرض ورأى آثار أقدام واضحة، فأخذ عشر شوكات خضر من شوك النخلة، وبدأ يقرأ ويغرس الشوكة تلو الأخرى في ذلك الأثر، وعندما انتهى قال للرجل اذهب وسأوافيك بما يُعيد لك حقك، وعندما حان المساء طرقت امرأة باب بيت عبد الله ترجوه أن يذهب لعلاج زوجها الذي ﻻ يقوى على المشي ﻷلم فظيع في أصابع قدميه، فتبسم عبد الله وأغلق بابه وذهب للرجل، وأخبره بأنّ الألم لن يفارقه إﻻ إذا أعاد التمر إلى صاحبه، ولكن الرجل حاول أن يتملص وأن ينكر التهمة، ﻷنّه كان قد باع التمر في سوق عبري صبيحة ذلك اليوم، فقال له عبد الله أعطني ثمن ما بعت، وإﻻ سيمتد الألم إلى أصابع يديك، ولن تهنأ بصحو وﻻ بنوم، فما كان منه إﻻ أن سلمه إياه وهو يصرخ من شدة الألم، فقال له: قم من فورك واذهب تحت النخلة وانزع الشوكات العشر من أثرك وسيزول الألم، فأخبره الرجل بأنّه كان يراقب عذوق النخل بشكل مستمر ورأى أنّه ما من أحد يخرف رطبها، فبيت النية على جدادها ليلا، وهذا ما تم حتى يبيع تمرها ولن يعرف أحد طريقه، وأنه لم يتوقع أنه سينكشف، ورجاه أن يستر عليه وﻻ يفضحه، ووعده بالتوبة الصادقة، فنفذ عبد الله وعده له ولم يفصح عن اسم الرجل حتى مات..

توقيع: "وغدا تأتلق الجنة أنهارا وظلا..".

تعليق عبر الفيس بوك