نقد الحال الراهن (20) الماضوية

د. صالح الفهدي

يبدو أننا أمّة تعيشُ الماضي أكثرَ مما تعيشُ المستقبل، ومعيشةُ المستقبلِ تعني أن يكونَ الحاضرُ أرضَ الفلاحةِ للمستقبل، بمعنى أن انتقاء الأفكار، وتشذيب المفاهيم، وتصفية المسلّمات يخضعُ لعملية "غربلةٍ" مستمرة، أمّا أن نعيش الحاضر ونتطلع إلى المستقبل بكل أفكارنا وتصوراتنا ومعتقداتنا وطبائعنا التي توارثناها أباً عن جد فذلك ما لا يمكنُ أن يسهم في صناعةِ مستقبلٍ مختلفٍ، متميّزٍ عن الماضي..! إذن نحنُ نكرّر الماضي وما التغيّر الذي نشهدهُ سوى ما تفرضهُ متغيرات العصر علينا من أنماطِ معيشةٍ، وانفجارٍ تقني، وثورة اتصالات، إنّما ظللنا متشبّثين بذات الأفكارِ بحجّة أنها مسلّمات، فدخلنا عصر القرن الواحد والعشرين كما يقول نزار قباني:

خلاصةُ القضيّة

توجزُ في عبارة

لقد لبسنا قشرةَ الحضارة

والروحُ جاهليّة

صحيحٌ أن الماضي هو أساسُ الهويّة، وأصلُ الجذور، وسلسلةُ التاريخ، ولا غنى عنه كإرثٍ وتجربةٍ، ومنجزٍ إنساني متراكم، ممتد، لكن أن يكون الماضي قيوداً ثقيلةً، أن يكون حنيناً دائماً، أن يكون جليساً شاغلاً فذلك غير صحيحٍ البتّة. انصت للأسُرِ وهي تجتمع، فإذا بها تجترُّ الذكريات جرّاً، وتعيدُ الصورَ الماضية كرّا، يؤلمكُ مسمعك من كثرةِ تردادِ كلمة الماضي، بينما لا تطرق سمعك كلمةَ مستقبل..! راقب قاموس اللغةِ اليومية عند النّاس، بل حتى في وسائلِ الإعلام لن تسمعَ من الكلمات الجديدةِ، والكلمات ليست مجرّد رموزٍ فارغة بل هي وسائلُ فكرٍ، ومحاملُ وعي، يقول الفيلسوف هاملتون: "الألفاظ حصون المعاني"، ويقول الفيلسوف هيغل: "إننا نفكر داخل الكلمات". فإن اضفت كلماتٍ جديدةٍ على مقالك أو قصيدتك يقال لك إنكَ تكتبُ لغةً جاهلية لا تفهم في العصر..! نحن نعيشُ إذن لغةً لا تتجدد، لذلك تتقهقر وتتراجع لأننا لا نجدد قاموسنا بالكلمات الجديدة، فأصبحَ تعبيرنا سطحياً لا يوغل في أعماق المشاعر، لأنه لا يملك من الإمكانات اللغوية للبوح العاطفي والنفسي..! أمّا اللغةُ التي نقرأ بها فهي رهينة الكتبُ ليس لها وظيفةٌ في حياتنا اليومية الاعتيادية وهذا ما يصيبنا بالانفصام الحاد بين لغة نقرأُها، ولهجةٌ نتحدثها..!.

كم من المعتقدات غير صحيحة وغير بريئة التي ورّثت في ذهنية شباب القرن الواحدِ والعشرين، جيل الهواتفِ الذكية، وثورة التكنولوجيا، وعصر الفضاءات المفتوحة، معتقداتٌ فكرية أو دينية أو اجتماعية، فما ذنبُ هذا الجيل حتى يحمّل إرثاً مئات القرون بما فيهِ من الثأرِ والبغضاء والأحقاد والظلامية؟! سألتُ هذا السؤال لصديقٍ فقال: نحن مرتبطون بنسبة 90 بالمئةِ بالماضي..!

يقول مصطفى الفقي: "نحن العرب أمة «ماضوية» تنظر قليلاً أمامها وتنظر طويلاً وراءها، لذلك ظلت علاقتنا بالمستقبل محدودة، وقراءتنا لما هو قادم نادرة، وأنا أتحدث عن ضرورة السعى لاستشراف المستقبل، واستكشاف ملامحه، والسعى منه إلى غدٍ أفضل للأجيال القادمة، فلقد أثبتت تجارب الأمم وخبرات الشعوب أن من يضع عينيه على المستقبل يصل إليه، أما أولئك الذي يلوكون الماضي ويقلِّبون في شعاراته فهم واهمون لا يصلون إلى غاياتٍ محددة أو أهدافٍ مطلوبة"

ها أنتَ ترى عقلياتٍ قديمةٍ لا تتجدد فكرياً، ولا تعيشُ المستقبلَ بأبعادهِ التي تحتملُ الخيالات، تقودُ أجيال القرن الواحدِ والعشرين بعقلية العصور الماضية..! أنماطٌ من الإدارة القديمة، ورقيات، رسائل مستهلكة، بيئات عمل لا تتغيّر، نفس القرارات، نفس التصورات، حياةُ مكرورة..! كيف يمكنُ لذهنية العصر الحديث أن تعيش واقعاً ساكناً، والسكونُ مصدر الأفَن، وأساسُ العفن..؟! أغلبُ الأشياءِ تشدُّ للماضي؛ متاحف، صروحٌ جامدةٌ، ذكريات، لغة، رموز، أسماء شوارع، بعض الهيئات الشكلانية، حتى طرق الطهي، ونظام الوجبات..!! أينَ هو المستقبلُ منّا؟! كيف نتطلعُ إليه إن لم نعش له؛ علماً وحلماً؟!

لقد سعدتُ وأنا أقرأ عن إمارةٍ دبي ذات التوجّهاتِ المستقبلية وهي تنشأ - على غير الدارجِ المعتادِ متحفاً يحمل اسم "متحف المستقبل" سيكون مركزًا حاضنًا للاختراعات الجديدة إلى جانب الأفكار المبتكرة، ومنتدى يضمُّ ألمع العقول في العالم تجتمع للتفكير في التقنيات المتطورة والاكتشافات العلمية، ووضعها موضع التنفيذ. هكذا إذن يعادُ صنعُ المصطلحات الجامدة، واستبدال وظيفتها، فالمتحفُ لم يعد هو مكان الماضي الجامد الصامت، إنّما هو ميدانُ الابتكار الناضح بالحياة، ومضمار الأفكار التي تصنع الزّمن القادم، ومعبر الخيالِ إلى الواقع المفترض.

إنّ أمّة ترهن نفسها للماضي بكلمة "كنّا" هي أمّةٌ تحكمُ على نفسها بالتقوقع بل بالتقهقر. الفخرُ بالماضي المشرّفِ هو جزءٌ من مكونات التاريخ والهُوية والوطنية الأصيلة، لكن أن يتحوّل ذلك إلى تمجيدٍ مقدّس، وتبجيلٍ مخدّر، فذلك إغراقٌ للعقلِ في زمنٍ بائد، في الوقت الذي نريدُ لهذا العقل أن يفكّر في حل معضلات الحاضر بما يثقلهُ من تبعات ماضوية. يقول سمير حباشنه في مقاله "ماضوية العقل العربي" :"حتى لا نعزِّز الرأي القائل بأن العقل العربي ماضوي بالفطرة، كمفهوم أو تهمة ألصقت بنا كعرب، علينا أن نتوقف عن معالجة الحاضر بأدوات الماضي أو التطلع إلى المستقبل وكأنه استنساخ للماضي التليد، أو اللجؤ إلى صفحات من الانتصارات التاريخية للعرب، لنعزِّي النفس فيما نحن عليه الآن من هوان وانكسار، هذا دون أن نهمل لجوءنا إلى تبرير حاضرنا البائس بإلقاء تبعاته على الغير، ونتناسى أهمية العامل الذاتي الرئيسية بنهوض الأمم أو تراجعها".

إنّ مقولة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :" علموا أولادكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم" هي مقولةٌ مستقبليّة، فيها حثُّ على تجنّب التربية النمطية التقليدية بل إدراك المتغيرات المستقبلية وإعداد الأبناء لهذه المتغيرات، وهي مقولةٌ توجّهُ للدول وليس للمربين فحسب. لذلك فليس من الغريب أن تجد الشّاب العربي وهو يحملُ صورةُ غائمةً عن المستقبلِ في ذهنهِ مما يولّد فيه الخوف والقلق والتوتر من المستقبل..! لهذا فهو يتجنّبه، ويتحاشى ذكره، فيعيشُ حاضره لاهياً لاعباً غير مدركٍ بأن الحاضرَ إنّما هو مزرعةُ المستقبل..! يقول الكاتب منح الصلح وهو يعلّل تفوّق الغربي على الشرقي في مقالهِ الموسوم "الماضوية ومعوقات بناء الإنسان العربي": "لو تعمقنا في درس تفوِّق الإنسان الغربي على الشرقي لوجدناها في وضوحِ صورة الغد عنده وحرصه على نوعية هذا الغد واهتمامه بمتطلباته وعمله على توفيرها منذ اليوم. ذلك أن المستقبلية الغارقة في الطريق الى تحقيق ذاتها هي سمة الإنسان المتحضر، إذ لن يكون المستقبل إلا إذا عاشت متطلباته وبدأت تؤمِّنها منذ الآن".

لا حل إذن أمام العقل العربي كي يتحرر من "حالة الارتهان" للماضي، ونزعة الافتتان بسحره، سوى الانطلاق إلى فضاءات العلم والإبداع والابتكار والبحث والعمل والإنتاج. لقد كتبتُ هذا للأجيالِ في درسٍ لي ضمن كتاب المؤنس المقرر للشهادة العامة بعنوان "صناعة المستقبل" قائلاً فيه: لا يمكنُ للمرءِ أن يفكِّر في المستقبل أو يرنو إليه وهو محاصر في فكرة جامدةٍ، أو طاقةٍ معطّلة، أو رؤيةٍ مبتسرة، لا يمكنه أن ينتظر كي ينطلق نحو فضاءات المستقبل لمسة الفضل الإلهي كي تحيل سكونيته البليدة إلى التفاتات سماوية تغيّر التاريخ دون أن يغيّر من نفسه "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " الرعد/11 . على العقلِ أن يشغل نفسه بالمستقبل لا بالماضي، فإنّ انشغاله بالمستقبل سيدفعه إلى التفكير الخلاّق، والعمل الجاد في الحاضر، فالمستقبل كما يقول جلالة السلطان قابوس -حفظه الله-:"هو الذي ينبغي أن يكون مدار تفكيرنا وتخطيطنا"".

تعليق عبر الفيس بوك