طقوس أهـل العفية.. مدرسة

أحمد السلماني

قرارٌ صائبٌ، بل حكيم، ذلك الذي أقرَّ بنقل نهائي الكأس الغالية إلى صور العفية؛ فكانت في الموعد، ولم تخذل جماهير الكرة في السلطنة قاطبة، بعد أن نَجَح أهلها -وبامتياز منقطع النظير- في التعامل مع البطولة، وهي تحمل أغلى الأسماء؛ في تعبيرٍ صادقٍ لأسمى معاني الحب والولاء والعرفان لباني نهضة عمان الحديثة، وكأنِّي بأهل العفية بفرصة انتظروها لعقود فقط ليقولوا لقابوس عمان: "نحن نحبك، ونجل كل شيء يحمل اسمك الغالي".

... إنَّني شخصيا أنقل لكم ما شعرتٌ به، وشاهدته؛ فليس من سَمِع كمن رأى؛ إنَّهم في صور شيء آخر مُختلف في التعبير عن المشاعر الإنسانية، بل إنهم أذكياء بالفطرة النقية في التعاطي مع البشر؛ فهم يعبِّرون عن مشاعرهم الجياشة بكل أريحية، وما بداخل قلوبهم على ألسنتهم؛ في معادلة موزونة لديهم، بل هي متأصلة في ذواتهم.

ولقد شَهِد لنا الأشقاء والأصدقاء في الخليج وآسيا بأنَّ الجمهور الرياضي العُماني شيء مُختلف وراقٍ لأبعد الحدود، فإنْ كانت هذه الثقافة هي المتأصلة في الجمهور العماني بشكل عام؛ فمع كل التقدير والاحترام للجماهير العمانية، فإنَّني أرى أن جمهور العفية هو العنوان والمدرسة التي نقلتْ هذه الصورة إذا ما عَلِمْنا أنَّ أنديتها الثلاثة تأسَّست في ستينيات القرن الماضي خارج القطر العماني، وعندما كانتْ تتأهل لنهائي الكأس الغالية في بداية السبعينيات، ومع صعوبة الجغرافيا في ذلك الوقت وعدم توافر وسائل النقل والطرق الممهَّدة، فإنَّ "الغنجة" كانت هي الوسيلة، وكان مشهدَ وصولها المهيب هو الوقود الذي مكَّن الطليعة من التتويج، إذا وبكل ثقة أقول "مدرسة صور التشجيعية هي المعلم الملهم لبقية جماهير السلطنة".

ولقد استبشرَ أهل صور بالقرار، وأعدُّوا له العدَّة؛ فتزيَّنت القلوب قبل الدور والدروب، واتَّحد أهلها جميعا في مشاهد راقية لاستقبال الكأس والقفز بالنهائي لمصاف النهائيات الاستثنائية، وفعلا -وأنا أعيش الحدث مُباشرة- تذكَّرت النهائيات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت؛ حيث الآن -وفي زمن عزَّ فيه الجمهور من التواجد في الملاعب، في نتيجة طبيعية لتشبُّعه بالمباريات عبر الشاشة الساحرة، ولمختلف البطولات العالمية وحتى المحلية- فإنَّ مشهد النهائي هذا الموسم كان استثنائيا من حيث الحضور الجماهيري والاهتمام الرسمي والإعلامي والشعبي بالبطولة الغالية؛ ليعلن اتحاد الكرة عن نهاية سعيدة لمسلسل طويل من الشد والجذب تناوله المشهد الكروي طوال الموسم؛ لذلك فإنَّ أقل ما يُقدمه اتحاد الكرة لأهل العفية هو الامتنان لهم، والحق أنَّنا كُلنا مُمتنون لأهل هذا البلد الطيب على حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة العربية الأصيلة، وقبل كل ذلك على المشاهد الحضارية وفنون التشجيع الراقية شيبًا وشبابًا رجالا ونساء وأطفالا.

والحقُّ أنَّ نهائي الكأس هذا الموسم قد بَدَتْ بشائر نجاحه وتميُّزه بعد تلقِّي نبأ نقله إلى ولاية صور؛ كون طرفي اللقاء هما القطبان صُور والعروبة؛ حيث -وعلى المستوى الرسمي- كان الاهتمام والعمل استثنائيين، وكأنَّ الجميع يعيش داخل خلية نحل؛ بدءًا بوزارة الشؤون الرياضية واتحاد الكرة والجهات الأمنية والحكومية بالولاية والهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون، خاصة القناة الرياضية والتي كانت قصة أخرى ارتقتْ بمستوى الحدث نحو الفضاء؛ فكان النهائي قصة من قصص ألف ليلة وليلة، وقبل هؤلاء جميعا كان لشرطة عمان السلطانية جهود جبَّارة في تنظيم الحركة المرورية، وحتى حركة البشر من وإلى المجمع الرياضي، وبكل بشاشة ورحابة صدر في تعاملهم مع الجمهور؛ فكلُّ الشكر والتقدير لكل من ساهم في خروج هذا الحدث الجميل بصورته التنظيمية البهية.

... ما لفتَ انتباهي حقيقة هو الطقوس الاحتفالية المدهشة التي قدمها أبناء العفية وجماهير العروبة تحديدا بعد التتويج الثاني لهم هذا الموسم؛ حيث المسيرات التي عمَّت كلَّ شوارع العفية حتى فجر اليوم التالي، ولكنَّ اللافت في المشهد هو مرور المسيرة والحافلة التي أقلَّت اللاعبين وجهازهم الفني على بيوت أعضاء الشرف بنادي العروبة والداعمين له؛ في لمسة وفاء وعرفان لهذه الزُّمرة التي قدَّمت الكثير من أجل أن يضعوا ناديهم على قمَّة هرم المشهد الرياضي والكروي في السلطنة، وهذا المشهد بحد ذاته أنموذج يجب أن يكون نبراسا لكل مؤسسة رياضية أو اجتماعية أو ثقافية في التعاطي مع من خَدَم وقدَّم وبَذَل كل شيء خدمة للمجتمع أو النادي، بدلًا من أن يُلاقى كل ذلك بالجحود أو النكران، أو حتى النسيان؛ حيث -وللأسف- هذا هو الديدن العام؛ فاختفى أولئك الداعمون يومًا خلف المشهد، وذهبوا مع الريح في مشاهد تتكرَّر كل يوم في مؤسساتنا الرسمية والأهلية... فهل نحن مُتعظون؟ ولنستلهم من أهل العفية دروسَ الوفاء للكرماء... شكرا لصُوْر وأهلها الأجلاء!

تعليق عبر الفيس بوك