بين الإقليمي والمحلي

عبيدلي العبيدلي

هناك حالة من الترقب التي تسيطر على المشهد السياسي البحريني، وهو ترقب غير جامد بفضل بعض الأحداث المتناثرة التي تتخلل هذا المشهد، والتي تعكس في ثناياها حيوية ذلك المشهد وديناميته. لكن بالقدر ذاته، تسود المشهد حالة من الإحباط تنعكس في العديد من الكتابات السياسية التي تصر على ترديد أن "البحرين، بوصف كونها الأصغر، والأقل سكانا، والأدنى دخلا وطنيا، تقبع في خانة المتلقي المستقبل (بكسر الباء) لنتائج الأحداث الإقليمية، ولا تملك إمكانية التأثير فيها".

وفي مثل هذا القول بعض الصحة، لكنه يخفي في طياته الكثير من التبرير لمن يريد أن يتخلى عن مسؤوليته التاريخية، ويترك الحبل على الغارب. ليس هناك من يجادل في كون العوامل الأكثر تأثيرا في أي مشهد سياسي تخلقها القوى الكبرى كل في مجاله. لكن مثل هذا القول يفصح عن نصف الحقيقة فقط، تكمله مقولات أخرى تؤكد على أن للاعبين الصغار في أية ساحة سياسية أدوار لا ينبغي الاستهانة بها، شريطة أن يتقن هؤلاء فنون اللعبة السياسية، ويستوعبوا بشكل ناضج قوانينها.

وللتدليل على صحة ما ورد أعلاه، نبدأ بالاقتصاد، فلو قبل أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة بأن لا مكان لهم في أسواق يتحكم فيها طواغيت المال، لما رأينا اليوم شركات عملاقة، بدأت صغيرة من أمثال شركة "آبل" و"مايكروسوفت"، بل وحتى "واتساب" التي بلغت قيمتها في أقل من عشر سنوات ما يقارب من عشرين مليار دولار. وهذه جميعا ليست حالات استثنائية، ففي الوسع وضع قائمة بأسماء شركات أخرى نجحت في أن تشق طريقها بنجاح منقطع النظير، وسط سوق دولية معقدة لا ترحم من لا يتقن التعامل معها.

وفي السياق الاقتصادي ذاته، يمكننا الاستشهاد بشركة سامسونج الكورية الجنوبية، التي تنتمي لدولة لا يتجاوز عدد سكانها ولاية من الولايات الأمريكية الكبرى، لكنها استطاعت، أي سامسونج، أن تقف في مواجهة شركة أبل، وفي عقر دارها، وإزاء أفضل منتجاتها وهو الهاتف الذكي "آي فون". لم تأت سامسونج بمعجزة، لكنها عوضا عن ذلك أنتجت هاتفا لا يقل ذكاء عن "آي فون" ويتمتع، في الوقت ذاته، بمواصفات تتطلبها السوق العالمية، فنجحت في تحقيق اختراقا ملحوظا في سوق شديد التنافسية.

ومن الاقتصاد نعود إلى السياسة، ونستشهد بالمشهد السياسي الفيتنامي، الذي نجح في السبعينيات من القرن الماضي، ووسط ظروف إقليمية في غاية التعقيد كانت تعيشها منطقة الشرق الأقصى، وفي فترة تصاعد فيها الخلاف بين أكبر حليفين لها وهما الصين والاتحاد السوفييتي. لكن هانوي، بحنكة زعيمها السياسي هوشي منه، وقائدها العسكري الجنرال جياب، وجبهتها الوطنية المتكاملة، تمكنت من أن تلحق الهزيمة بأكبر قوة عسكرية في حينها وهي الولايات المتحدة الأمريكية.

مرة أخرى، لم تلجأ فيتنام إلى المعجزات، ولكنها استعانت عوضا عن ذلك ببرنامج عمل وطني محلي، يراعي الظروف الإقليمية، ويأخذ في الحسبان العلاقات الدولية، لكنه يثق -أيضا- في القدرات المحلية، وكيفية تعاملها المبدع مع تلك الظروف الدولية والإقليمية. وبفضل ذلك لم يجد الأمريكان بدا من الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع جبهة التحرير الفيتنامية، وتقبل أمريكا بشروط كانت واشنطن قد وضعتها في فئة المحرمات.

التجربة الكوبية في الستينيات، هي الأخرى جديرة بالدراسة، فقد نجحت هافانا أن تفرض نفسها، وهي القريبة من شواطئ المؤسسة العسكرية الأمريكية، وأن تنتزع اعتراف واشنطن بها، رغم رفض هذه الأخيرة القبول بكوبا دولة بعيدة عن مناطق النفوذ الأمريكية.

بطبيعة الحال في كلتا التجربتين: الفيتنامية والكوبية، هناك الكثير مما يستحق الدراسة، كي لا يؤخذ على ما يذهب إليه هذا المقال التسطيح عند مقاربته المزاوجة (بفتح الجيم) بين المحلي والإقليمي بشكل مبدع لصالح الأول، لكن القصد من وراء الاستشهاد بكلتيهما، هو لفت النظر إلى قضية واحدة فحسب، وهي من الخطأ الكبير الذي يمكن أن تقع فيه أية قوة سياسية تطمح للتغيير أن تخضع المحلي، بشكل مطلق لصالح الإقليمي، أو في بعض الحالات لصالح الدولي.

وعودة للبحرين، لا شك أن طبيعة الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، وعلى وجه التحديد الخليجية منها خاضعة للعديد من العوامل المعقدة، التي تبيح لمن يريد أن يروج لغلبة الإقليمي على المحلي، لكنها بالقدر ذاته تشكل تحديا تاريخيا للقوى السياسية الباحثة عن مخرج مبتكر تبادر بطرحه بشكل مبدع قادر على تجيير الإقليمي بشكل خلاق غير مسبوق لصالح الوطني.

تعليق عبر الفيس بوك