حياة في الإدارة

ناصر محمد

جرت العادة، وليس دائمًا، عند الأقلام العربية أن تسطّر الكلمات دون ذلك المختبر الحياتي الذي يفترض أن ينحت الكلمات المناسبة للتجربة المعاشة، فمع أنّ عصر النهضة والعصر الحديث للوطن العربي قد دخلت في معجمه الكثير من المصطلحات الوافدة من الحداثة الغربية كالديموقراطية والعلمانية والليبرالية، إلا أنّ هذه المصطلحات قد زرعت كما يبدو دون جذورها، فهي مثل ظلال كهف أفلاطون التي تدل على مُثُل مفارقة إلا أنها أمام العين المجردة ليست سوى مجرد ظلال!

إنّ الفكاك من أسر هذه المصطلحات، التي قد تشوه الواقع حين يتم توظيفها في غير سياقها، هو أمر يتطلب اخضاعه للتجربة وذلك لمعرفة مناسبته للتربة الفكرية والنفسية المراد تطبيقه عليه، والذي لن يكون في قاعات الدراسات الأكاديمية والصحف بقدر ما يتضح أكثر في الممارسة العملية، أي في قلب السلطة!

يستعرض غازي بن عبدالرحمن القصيبي (1940-2010) في كتابه "حياة في الإدارة" خلاصة حياته في "جامعة الحياة" على حد وصفه، فالقصيبي خارج من رحم السلطة والبيروقراطية الحكومية في المملكة العربية السعودية لأعوام عديدة، وقد تسلّم طيلة حياته أربع حقائب وزارية وعمل سفيرا لدولتين: البحرين وبريطانيا، هذه الأخيرة التي يختتم فيها القصيبي تجربته العميقة مع السلطة والمجتمع من زاوية المُنفّذ والمنظّر أيضا.

يبدأ القصيبي كتابه، الذي يتأرجح بين السيرة الذاتية والكتاب التعليمي بدون فهرس، عن بدايته في الطفولة مع الإدارة والتي هي المدرسة، تلك المؤسسة التي تنقل الطفل من بيئة غير إدارية تماما إلى بيئة أخرى ينصدم فيها الطالب بسلطة المعلم صعودا إلى المدير. تناول القصيبي عدة ظواهر ملموسة في تلك المرحلة، التي قد لا تختلف كثيرا عنها الآن، مثل الإدارة ذات التوجه العقابي وشخصيات المدرسين القوية والضعيفة والواسطة المبنية على طبقة الطالب الاجتماعية وتجربة السلطة المبكرة للطالب في وظيفة مراقب للطلاب، إلا أنه على الرغم من السلبيات التي مر بها القصيبي في المدرسة إلا أنها صقلته كثيرا خاصة في موضوع الأنشطة الطلابية وضرورة وجودها في المدارس لأنها بالفعل تغني خبراته الحياتية المستقبلية.

وفي حياته الدراسية اللاحقة في الجامعة، ينقل لنا القصيبي تجربته في دراسة الحقوق في مصر ومشاكل التكدس الطلابي وظاهرة الرشاوي السائدة هناك، لينتقل إلى مرحلة دراسة الماجستير في الولايات المتحدة الأمريكية إذ يقارن بين أنظمة التعليم التي تكاد تخلو من تلك التعقيدات الجامعية، وبها غنى تنظيري للنظريات السياسية التي تتراوح بين نظرية القوة الميكيافيلية ونظرية التوافقات الآخذة بالمتغيرات، وأشار القصيبي إلى بعض التعقيدات الموجودة في أغلب الجامعات وهي سلطة المحاضر المطلقة على الطالب، إلا أن الوضع الدراسي في الدول النامية متخلّف ليس بسبب الكادر وحده بقدر ما هو انعدام الاتصال بين الاستثمارات المالية والتنظير الأكاديمي. ويلفت القصيبي القارئ إلى تجربته في رئاسة الاتحاد الطلابي العربي في أمريكا ومدى الاستفادة الكبيرة التي جناها منها، وقد أكد على فكرة أن العداء الحقيقي للإنسان العملي القائد يأتي من الأشخاص غير العمليين الذين لا يفعلون شيئا، ولقد نبّه القصيبي إلى أهمية الإدارة ومعرفتها بالواقع وذلك في معرض حديثه عن قدرات اللوبي الصهيوني في التحكم بالإعلام والمعلومة ومواجهتها بالنقد العقلاني والذي يفتقر إليه العقل الإداري العربي!

بعد ذلك ينتقل القصيبي إلى موضوع عمادته لكلية التجارة بجامعة الملك سعود عام 1971م، ويفصّل فيها إشكاليات العمادة بها بالمقارنة مع العمادة في فرنسا ومصر التي تمجد من شأنها، والعمادة في أمريكا والتي هي في النقيض تماما إذ يغلب عليها طابع المسؤولية، وفي بريطانيا التي تتأرجح بين الطابعين، بينما العمادة في المملكة لها إرث ضئيل والعميد الذي هو القصيبي صغير في السن! قام القصيبي بعمل مقارنات بين الوظيفة التنسيقية للعميد والوظيفة الإدارية والمالية للوكيل في الجامعة وكيف حاول تقليص هذه الفجوة لكي تكون الإدارة لها نوع من المركزية، وكفاحه ضد تكلّس الأساتذة أمام طلبتهم وتجسير العلاقات بينهم، كما أكد على ضرورة مواءمة المناهج مع الواقع والكف عن الأخذ بحذافير النظام الأمريكي وتجربته التي قد لا تتناسب مع التربة العربية مثلما هي الحال في تدريس الطلاب عن البحيرات الكبرى الأمريكية أو شعر أيرلندا!

يبدأ القصيبي بعد ذلك في الحديث عن تجربته في الوزارة، أي على رأسها، وكيف أنّ عدوى البيروقراطية هي المهدّد الأكبر للحكومة، و ذلك حين تنفصل الحكومة عن الواقع وتدور فقط في مركز الوزير والمسؤولين ومشاكل الرواتب والروتين، كان القصيبي، على حد قوله، يتبع الأسلوب الهجومي في التعامل وليس الدفاعي، أي ذلك الأسلوب الذي يتلمّس المشكلة قبل وقوعها تجنبا لذلك الموقع الدفاعي الخائف على الكرسي، وتحدث القصيبي عن تجربته على رأس وزارة التجارة والصناعة وسعيه لتحرير القطاع الخاص من التعقيدات البيروقراطية التي تنفّر الاستثمار المحلي والأجنبي عنها، وكذلك رغبته الكبيرة في خصخصة الكثير من المرافق ودفق مجلس إدارتها بالمعايير النشطة بدلا أن تتحول إلى كتلة بيروقراطية أخرى ! كما تطرق القصيبي إلى أن الإدارة ينبغي الفصل فيها بين العلاقات الشخصية والوظيفية وكيف أن كثرة الأصدقاء يضر بالإدارة، وأن هناك من الإجراءات الضرورية - ذات الطابع الديكتاتوري - ينبغي اتخاذها للمصلحة العامة كما هو الحال بخصم راتب الموظف المستهتر أو الفصل من الوظيفة لكي يتم تنظيم العمل تنظيما صحيحا. وليس المهم في الوزير أن يكون متخصصا في الوزارة المكلف بها وذلك لأنه سوف يركز على ما يخص تخصصه ويهمل الجانب الأعظم في الإدارة من المصالح العامة.

يتحدث القصيبي أخيرًا عن تجربته في السفارة، إذ عُيّن أولا سفيرا في البحرين ومن ثم في بريطانيا عام 1992م، ويتحدث فيها عن طبيعة عمل السفير المختلفة كثيرًا عن عمل الوزير، من جهة الوقت الأكثر وفرة للسفير وكذلك الحساسيات بين أفراد السلك الدبلوماسي والسفراء الآخرين في التقيد بالوقت، وبسبب خصوصية البحرين وشعبها فقد اختار القصيبي أن يؤسس ديوانية للالتقاء بكافة الشرائح من المثقفين والأدباء ورجال الأعمال في جو شعبي قريب من طبيعتهم، ويقوم القصيبي بعقد مقارنات بين السفراء العرب والغربيين من ناحية الصلاحيات إذ تقلّ كثيرًا عن العرب لدرجة الطابع التنسيقي لهم كناقلين لرسائل رؤساء دولهم فقط، كما أنّ السفراء العرب لا يبادرون في الدفاع عن المصالح الاقتصادية لدولهم مثل السفراء الغربيين الذين يهتمون بوضع العاملين والشركات التابعة لهم، وعليه فقد أوصى القصيبي أن ترفد السفارات بالمتخصصين وأصحاب الخبرات وذلك لإدراك الوضع في الدولة المضيفة والإحاطة بكل جوانبها حتى تخرج السفارة من الطابع الوجاهي، كما أضاف أن السفارات العربية ينقصها الدعم المادي إذ أن بعض السفراء العرب لا تتوفر لديهم أحيانا وسيلة نقل!

غازي القصيبي تجربة ثرية جدا وقريبة من الواقع، وهو الإنسان الحاضر بعقله في أغلب النظريات الإدارية ولا تتشوه مرآة الواقع لديه بمجرد تداول مصطلح رنان من أي تجربة في العالم، إذ كما قال هو ينبغي القياس بمقياس جامعة الحياة التي تستقرئ من الواقع إلى التنظير وليس العكس!!

تعليق عبر الفيس بوك