فرنسة التسوية

فؤاد أبو حجلة

لا شيء واضحا أو مؤكدا، ولا يقين في أيّ شيء في المنطقة العربية في هذه المرحلة المكتظة بالمفاجآت.

ولعل الفوضى هي السمة الأكثر صدقية في وصف الواقع العربي الراهن، بعد أن استطاعت القوى الإرهابية المدعومة والمسلحة والممولة إقليميا ودوليا اجتياح أجزاء كبيرة من خريطة الوطن العربي تحت شعار الدين ودولة الخلافة، وبعد أن نجح الفكر التكفيري في اختراق المجتمعات العربية وإيجاد حواضن للإرهاب الظلامي في هذه المجتمعات التي عاشت عقودا وهي تحارب بالنبذ والعزل والإقصاء قواها الطليعية المستنيرة.

تتوالى المفاجآت.. ربيع عربي يفجر الفوضى في المنطقة، وحروب طائفية يؤكد فيها العرب أنهم أسرى للأساطير، واتفاق أمريكي دولي مع إيران على حساب العرب، وحكومة إسرائيلية توراتية تؤمن بخرافة الحق اليهودي في كل أرض العرب.

في ظل هذه التحولات يجد عرب المشرق وبعض عرب المغرب أنفسهم ضحايا لهذه التحولات التي تترجم مرارتها في أعداد القتلى والجرحى في جغرافيا الحروب والمواجهات الغبية بين الأنظمة القمعية ومعارضاتها المحلية والمستوردة، ويلفح لهب الحرائق في مناطق المعارك وجوه العرب في البلاد التي لم تستسلم للربيع الشيطاني.

وفي ظل هذا الواقع يبدو الفلسطينيون أكبر الخاسرين، بعد أن تم اختصار الصراع العربي - الإسرائيلي وتقزيمه ليصير صراعا فلسطينيا- إسرائيليا، وبعد أن تم حشر شعب بأكمله بين سندان سلطة أوسلو التسووية ومطرقة حركة حماس الانقلابية، وكلاهما مشغول في مواجهة الآخر رغم الفصول المتلاحقة في مسرحية المصالحة التي لا يريدها الطرفان.

يخسر الفلسطينيون أيضا من الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران، لأن توجه واشنطن نحو طهران أعاد خلط أوراق التحالفات في المنطقة وخلق واقعا مرا تتقاطع فيه مصالح إسرائيل مع مصالح أنظمة عربية في مواجهة التغول الإيراني في الإقليم. وإذا كان حلفاء واشنطن من عرب الاعتدال عاجزين عن استثمار علاقاتهم القوية مع الولايات المتحدة في تحقيق أي إنجاز للفلسطينيين ولو بدفع مسيرة التسوية، فإن علاقات عربية مع تل أبيب لن تستطيع أن تحقق شيئا للجانب الفلسطيني.

وإذا صح ما ذكرته الإذاعة الإسرائيلية عن عقد لقاء في الأردن بين مسؤولين إسرائيليين ومسؤولين عرب لا تقيم دولهم علاقات رسمية علنية مع إسرائيل، فإن تقاطع المصالح بدأ يعبر عن نفسه بهذا النوع من لقاءات التنسيق.

وربما كانت ملاحظة زميل صحفي تعبر عما آل إليه الوضع العربي الراهن، فقد لاحظ هذا الزميل أن الصحافة العربية بمعظمها تجاهلت ذكرى النكبة الفلسطينية التي مرت قبل أيام، ولم يزد عدد المقالات المنشورة عن النكبة عن عدد أصابع اليد الواحدة! بينما انهمك الكتاب في توصيف شرور "داعش" وتمجيد حكمة القيادات التاريخية في بلاد العرب.

وقد كان موجعاً للقارئ العربي أن يقرأ في ذكرى النكبة عن صدور فتوى تحرم لعن إسرائيل!

تواصلت الخسارة الفلسطينية في مجيء حكومة إسرائيلية جل أعضائها من المستوطنين ومن الأحزاب الدينية التي تمجد الجريمة والتخلف وتحاول إحياء الأساطير التوراتية على حساب الفلسطينيين الآن وكل العرب لاحقاً.

أمام انغلاق الأفق حاولت سلطة أوسلو فتح ثغرة في الجدار، من خلال المبادرة الفرنسية للتسوية، وهي المبادرة التي أعلن عنها الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل أن تعلن عنها باريس، واعترضت عليها إسرائيل كالعادة لأنها لا تعترف بـ "حق اليهود في القدس".

وإذ يتحمس السياسيون التسوويون للترويج لهذه المبادرة باعتباره خشبة النجاة لمشروع التسوية، فإن الواقع لا يبشر بأي أمل بالاتفاق على المبادرة واعتمادها أساسا للحل وتطبيق بنودها، فالعالم منشغل الآن بانتظار توقيع الاتفاق النووي مع إيران في نهاية حزيران وبالانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني وبالحرب على الإرهاب، وهي الحرب التي لا يبدو أن هناك قرارا بإنهائها في المدى المنظور.

لذا يتواصل الاستيطان وتهويد القدس وكل الضفة الغربية بلا اعتراض جاد من أيّ طرف عربي، وربما يصبح الفلسطينيون حجر عثرة أمام قيام تحالف جديد في المنطقة.. وعليهم أن يتحملوا كما تحملوا طيلة العقود السبعة الماضية.

أما الذين راهنوا على أمركة التسوية وأحبطتهم واشنطن، فإنّ عليهم أن يترقبوا مآلات فرنسة المشروع التسووي.

تعليق عبر الفيس بوك