نور البصيرة

ناصر الجسَّاسي

في العام 1988، حمل محمود وزوجته أمتعتهما عائديْن من مدينة الضباب لندن، إلى المدينة العامرة مسقط، بعد انتهاء رحلة علاج بائسة لطفلتهما شيخة، ذات التسعة أشهر، والتي تعاني من إعاقة بصرية منذ ولادتها. وبالرغم من ضباب لندن وجوها البديع وتقدمها التكنولوجي والعمراني، إلا أنها بدت في عيون هذين الزوجين صحراء قاحلة، وأصبحت لا تمثل لهم أيَّ أهمية دام أن علاج طفلتهم أصبح شبه مستحيلاً.

وبعد عودتهما إلى أرض الوطن، احتار الزوجان: هل يرضخان لليأس ويختاران أسهل الطرق لمستقبل طفلتهما، ورَكْنِها في زاوية من البيت يُشفق عليها الجميع، أم يواجهان القدر ويرسمان مستقبلاً مشرقاً لطفلتهما، ويصنعا من المحنة منحة.. اختار الزوجان الخيارَ الثاني، ورسما طريقاً محدَّداً لطفلتهما؛ فاجتهدا في تربيتها ورعايتها، وعندما كبرت تم ابتعاثها إلى مملكة البحرين لتتلقى التعليم الخاص بمعهد النور للمكفوفين، وكانت لا تعود إلى أحضان أمها إلا في إجازات منتصف العام الدراسي وفي نهاية العام الدراسي، وكان هذا الأمر يعتبر تحديا آخر لهما؛ ففي كل مرة تسافر فيها طفلتهما شيخة إلى البحرين تمسك بأمها وأبيها وتبكي بكاءً شديداً، وكانت تكاد تقطع ملابسهما من كثرة الإمساك بهما، وكانت قلوبهما تتقطع مع بكائها وتوسلاتها، لكنهما كانا يريان التعليم هو العلاج الوحيد الذي سيعوضها عن نعمة البصر.

عادت شيخة إلى السلطنة بعد 9 سنوات من التعليم والغربة، وكانت من الطلاب المتميزين في دراستها بالبحرين؛ فقد ألهمها الله نورَ البصيرة؛ ففي مدرسة الغالية بنت ناصر بعبري أكملت دبلوم التعليم العام، ومن ثمَّ التحقت بجامعة السلطان قابوس، والآن تعمل في هيئة تقنية المعلومات، ومحاضِرَة في التنمية البشرية، وتشارك في العديد من الفعاليات والمناشط التي تهم المجتمع، ولها أهداف وغايات تود تحقيقها مستقبلاً.

وفي العام 2014، ابتٌعِثَت شيخة إلى لندن لحضور دورة تدريبية، فأخذت معها أمها وأخيها لمرافقتها؛ ففي المرة الأولى جاءتْ شيخة إلى لندن وهي لا ترى نور الحياة وعادت إليها بعد 27 عاما بنور القلب والبصيرة، واستمتعت أمها بالرحلة والتقطت أجمل الصور التذكارية والابتسامة تعلو وجهها.. شتان بين الزيارة الأولى والثانية.

الجميع عندما يخرج إلى الدنيا يخرج معصوبَ العينين عن رؤية مستقبله، ويبقى محتاجاً إلى من يأخذ بيده ويوجِّهه التوجيه الصحيح وأول الناس نحن الآباء..علينا أن نعتني بأبنائنا مهما بدت هيئاتهم الجسدية وإمكانياتهم الذهنية والعقلية، ولنزرع في قلوبهم الثقة، ونشجِّعهم على العلم، وعلى رسم أهدافهم، وأن تكون لهم بصمة واضحة في الحياة.

كم من شخص كان بإمكانه أن يصل إلى أعلى المراتب، ولكن قوبل بالاستهزاء والتهميش من قبل والديه ومن ثم مجتمعه! كم من شخص كان سيكون عظيماً لو وجد من يشجعه ويحفزه ويعلمه ويدفع به إلى الأمام.. فبالعلم نسمو، وبالعلم نحيا، وبالعلم نرقى، وبالعلم نرى الكون بأكمله.

تعليق عبر الفيس بوك