صفحة أمريكية من العار لم تطوَ بعد!

ليلى البلوشي

كان وصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما عام 2008م إلى سدّة الحكم ودخوله مع زوجته وابنتيه من الباب المفضي إلى البيت الأبيض أشبه بصدمة عالمية كبرى وقتئذ؛ لأنّ البيت الأبيض كان منيعًا في وجه الرجال السود، البيت الأبيض الذي ظلّ طوال الحكم الأمريكي حكرًا على رجال لون جلودهم أبيض بل إنّ حتى تسميته أشبه ما تكون بذات مغزى عنصري!

ولا يمكن أن تتحدث عن فترة حكم رئيس أمريكي أسود دون أن نخوض في حديث عن رجال ونساء سود كانت لهم جهود جبارة أشبه بالمعجزات لتغيير تاريخ مجتمع أمريكي اشتهر بعار التفرقة العنصريّة، على رأس هؤلاء الأبطال أصحاب الكلمة الحق والموقف الحق، والذين دفعوا ثمن موقفهم المشرف- على رأس هؤلاء امرأة الحافلة التي فجّر موقفها الشجاع في وجه رجل أبيض أراد دون وجه حق الاستيلاء على مقعدها في المكان المخصص للسود؛ لأنّه لم يجد مقعدًا فارغًا له في المكان المخصص للبيض، المرأة التي أُصرّ دائمًا على ذكر اسمها في كل مقالة استذكر فيها تاريخ العنصرية الأمريكية، كي يبقى اسمها مشعًا في الذاكرة في وجه طوفان النسيان؛ روزا بانكس، هي التي كانت سببًا في قيام تظاهرات واحتجاجات قادها قس معمداني كان غير معروف يومها، ولكن صار شهيرًا للغاية وهو مارتن لوثر كنج، هذه المرأة التي توفيت عام 2005م صارت أيقونة لحركة الحقوق المدنيّة ولولا شجاعتها لما كان باراك أوباما اليوم رئيسًا لدولة عُرفت بالعنصريّة، ولعلّ وصوله إلى موقع السلطة حجب قليلا الرأي العام عن قضايا العنصريّة الأمريكيّة، والتي لم تشف تمامًا منها كما خيّل للبعض في الأعوام الأخيرة، فالعنصرية لم تكن تصرفًا اجتماعيًا نابعًا عن مجتمع اعتاد على ممارسته لأعوام طويلة مع شعور متفاقم بالتفوق لذوي الجلود البيضاء على نظرائهم السود فحسب بل كان أشبه بمرضاة الرب، وموقفا دينيًا يلتزم به للأسف كثير من الأمريكيين حتى وقتنا الحاضر!

الناشطة الثورية السمراء آنجيلا ديفيس من أبرز من كانت ضد الحراك العنصري منذ الستينيات، وكانت مطلوبة لدى الإف بي آي في عام 1970م لمواقفها الجريئة أشارت بوضوح إلى أنّ العنصرية الأمريكية ليست مسألة أشخاص وإنّما هي منهجيّة كاملة داخل مؤسسات الدولة الأمريكية لا سيما مؤسسات الشرطة والأمن والسجون.

ولعلّ الأحداث التي جرت العام الماضي في فرغسون والعام الحالي في بالتيمور تجعلنا أمام حقيقة دامغة على أنّ العنصرية الأمريكية لم تمت وعلى ما يبدو لن تموت، فما يزال كثير من الأمريكيين الأفارقة يعانون من التفرقة، وعدم المساواة بينهم وبين البيض في فرص العمل والتعليم، مما ضاعف من مشاعر هياجهم وتمرّدهم على رجال الشرطة البيض الذي لا يكفون في كل فرصة سانحة على انتقادهم؛ ففي السنوات الأخيرة شهد المجتمع الأمريكي عنفًا من رجال الشرطة البيض على الشباب الأمريكي الأسود الذين يذهبون ضحية قتل لأسباب تافهة دون أن يحاسب مرتكبوها على جرائمهم، مما جعلت التظاهرات والاحتجاجات تتفجر في معظم أنحاء البلاد من هؤلاء المظلومين دون أن يسمع لهم أحد وكما قال مارتن لوثر كنج: إنّ أعمال الشغب هي لغة غير المسموعين، هذه الأعمال التي تتفاقم آثارها وأوراها مع مرور الأعوام؛ لأنّها لا تجد لصرختها صدى يخلّصها من العنف الذي تتعرض له باستمرار، ها هو غلاف مجلة تايم الأمريكية في عددها الأخير يوثق أحداث بالتيمور الأخيرة التي ذهب ضحيتها شاب أسود أعزل تسبب رجال الشرطة البيض في قتله، الغلاف الذي كتب عليه تاريخ عام 1968م وعام2015م، أي أنّها مشتعلة منذ اغتيال الناشط الإنساني مارتن لوثر كنج إلى يومنا هذا، كنج الذي قرأ التاريخ جيدا قبل أن يغادر الأرض التي اغتيل عليها في بالتيمور حين قال كلماته في خطبة عام 1968م: إنّه من غير الأخلاقي أن ندين أعمال العنف بدون أن ندين الأسباب التي أدت لإشعال أعمال العنف نفسها؛ هذه الأسباب هي التي تجعل الأشخاص يشعرون بأنه ليس أمامهم بديل غير الثورة العنيفة.

لم تعد العنصرية الأمريكيّة التي كانت موجهة وما تزال نحو الأمريكيين من الأصول الأفريقية وغيرها فحسب، بل إنّ عنصريتها التي لا تكف عن التعاظم والتعالي عند كثير منهم تصوب اليوم نحو كل إنسان مسلم، كل مسلم في أمريكا يحصر في دائرة عنيفة من الشك والارتياب، وحين يقع أمر إرهابي فإنّهم يشهرون أصابعهم أولا في وجه كل أمريكي مسلم، وتتمادى هذه العنصرية عندما يصفون الإرهابي إذا ما كان أمريكيا وغير مسلم بأنّ أفعال جرمه الإرهابي ناجمة عن الجنون، أمّا الإرهابي المسلم فإن صفة الجنون أبعد ما تكون عنه حين يقترف الجرم نفسه الذي اقترفه غيره!

وهذا ناجم عن أسباب كثيرة، ولعلّ أهمها الجهل المتعمد بالحقائق المزعجة، فالعنصرية باتت اليوم جزءًا لا يتجزأ من حياة المؤسسات الأمريكية كما ذهب الكاتب والباحث الصحفي نعوم تشومسكي في آخر حوار معه في صحيفة نيويورك تايمز.

تعليق عبر الفيس بوك