أسباب غبية جدا

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

تسيل الرحمة ينابيع من نور تكلل هاماتهم، وتعرج بهم نحو فراديس الخالدين، مُمَسكة سيرهم العطرة مسكا لاينضب، بدون مباخر تتصعد لتعطر الأكوان، نورانية تلك الأرواح العابقة فينا نسائم من أريج، يتناسل منها العطاء.

ومضة أولى:

يشتد الحر يشتد تسخيرهم في جو قاتل أحيانا لا أستطيع أن أنظر إليهم طويلا، هم يجترحون إنسانيّتنا كم كتبنا عنهم وكم قرأنا صيحات تستنكر هذا الفعل، لكن البعض ينظر إليهم كلوح من الورق المقوى، كتلك الصورة التي يلبسونها لبس العامل للدلالة على وجود أعمال إشغال في الطريق، اليوم الجمعة الساعة الثانية عشرة ظهرًا الرجال يتدفقون إلى صلاة الظهر في المساجد البعض يحمل شمسية والآخر يهرول، ونحن في سيّارات مكيفة، وهم يصلحون مواقف ويبنون شيئًا ما، أمام أحد المحال التجارية الكبرى على الشارع العام، ولا أحد يعيرهم التفاتة، ترى هل نحتاج لعين كاميرا تلتقط مشهدًا كهذا وتسجله كنوع من تجاوزنا لحقوق الإنسان !!! كنت قبلها ألتقط مشهدًا جارحًا آخر من شباك مطبخي في الساعة الثانية بعد الظهر عمال يرصفون الحجارة لشارع جانبي لكنّه يطل مباشرة على الشارع العام، يمر بقربهم شاب يقود سيّارته ويعود مسرعًا حاملا ماءً ومشروبات غازيّة، تناولوها بلهفة، يأتي ربما المسؤول عنهم يراقبهم وهو في سيّارته اللامعة المكيّفة، لم ينزل ثانية واحدة، ترى ألم يشعر هذا المتمرئس في مقعده بوخز ما، ألم تمر به ثانية من وجع، أشهد أنّ لبعض الناس قلوبا من صفيح، يتكرر هذا المشهد شبه يومي أمامي منذ أسبوع ومازال، المصيبة الأكبر أنني رجعت لرؤيتهم الآن وأنا أكتب مقالي، راجية أن يكونوا قد انصرفوا، الساعة الثانية والثلث بعد الظهر، لكنّهم مازلوا يعملون بين فكي حرارة الجو ونيران الشمس المتصاعدة ووهج الأسمنت والحجارة، إنّهم أربعة عمال في عز احتراق الظهيرة، أحدهم يدير خلاطًا للأسمنت والآخر يصبه لتثبيت الحجر، لا أعرف من يشغلهم لكن يبدو لي أنّه فرد أوكلتْ له الحكومة إنهاء مشروع كهذا لتثبيت الرمال من الانهيار عندما تتوالى الأمطار، أو أنّها شركة صغيرة، لكنهم يعملون بلا انقطاع جمعة سبت وهي أيام إجازات، يا ويلنا هل نريد أحدا يذكرنا بحقوق الإنسان ونحن نملك دينا يفيض إنسانيّة ومحبة وعطفا، ( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

أعتقد هناك من سيتبرع بالاجابة لكنّهم ليسوا إخوتنا فهم لا دين لهم، والسؤال هل حدد الحديث نوعية الأخوّة واقتصرها على أخوة الدين !! إنّهم إخوتنا في الإنسانيّة التي نصر على اجتراحها بشكل شبه يومي..

ومضة ثانية:

تقوم بخدمة بيت يتكوّن من 16 فردًا، كنحلة تدور بدون طنين من غرفة لأخرى ومن حمام لآخر ومن المطبخ إلى الفناء/ الحوش، يأتي وقت الطعام يتبقى لها الفضلة وأكوام من فوضى المخلفات، وأدوات طهي وصحون للغسيل.. وفي آخر الشهر تسدد كل الارتباطات المالية وينسونها أو يتناسونها مؤجلين حقها وثمن عرقها للشهر القادم.. لا يفكرون لحظة بأنّها قد تركتْ خلفها أسرة هي بأشد الاحتياج لحفنة دولارات تسد جوعهم، لكن على من تقرأ زبورك يا داوود، ونقول لماذا لا يشكروننا ولا يشكرون الله !! ولماذا يسيئون إلى أطفالنا عندما نغيب عن أعينهم، الجواب لم تقدم لنفسك حتى يسترون غيبتك، فكما تفعل تجازى، ويتساءلون لماذا هذه الخادمة أو تلك تقوم بإيذائنا أحيانا؟!! باختصار لأنك امتهنت إنسانيّتها واستخدمتها كآلة بكماء عليها أن تدور دون أن تصرخ، فلجأتْ للعنف والانتقام منك، أتستنكر إن خربشتك بعد أن قتلتها !!!

ومضة ثالثة:

أشتكى إليه الحال وأن كفيله قد توفاه الله، وهو يريد أن يفتح مطعمًا لكنه يريد شريكًا عمانيًا، دق صدره ولحس في داخله لعاب الطمع الذي كاد يندلق من فمه، سنتشارك بالنصف أنت عليك المال والجهد والإشراف على العمال، وأنا عليّ الكفالة ونصف المبلغ و..و..و... فرح المسكين أخرج حصيلة تعبه وتعب والده المربي الفاضل الذي عمل طويلا في السلطنة كمدير مدرسة، وضع الوافد ثلاثين ألفًا عمانيًا كرأس مال، وانتظر من الشريك مبلغًا مماثلا، لكنّه لم يفعل، في آخر الشهر يقتسمان، ثم طالب العماني بتعيين أحد أقاربه محاسبًا، لا يأتي إلا آخر الليل لاستلام الغلة وترك بضعة ريالات معدودة للبدء بعمل الغد هكذا بدأ المطعم يتراجع، والوافد ساكت على أمل نقل الكفالة مضى عام على الوعود المذهبة، لكنه تفاجأ بالقبض عليه من القوى العاملة لأنّ شريكه لفَّ من الخلف واستغل سلطة ابن عم له هناك، وأبلغ عنه بأنّه هارب من كفيله وأنّه يعمل بشكل غير شرعي في البلاد، ولم يكتف بهذا بل رفع عليه قضية ما، ولا أدرى كيف وجد له من يسانده هناك، تشتتْ ذهن الرجل وخسر ماله ومطعمه، ذهب للشريك يرجوه يجدد له الكفالة ليبقى هنا مع زوجته وابنتيه، فهن بحاجة ماسة إليه، خيَّره الشريك بالتنازل عن المطعم وكل ماله فتنازل، لا تهمنا بقيّة المأساة يهمنا أننا ندعي الفضيلة والدين ومسبحة الشريك تطول مع كل نصب واحتيال ولا تفارق يديه، ثمّ تركه يعاني مصيره ولا يغادر بيته خوفًا من أي ارتباك في حياته، وهو ممن لا يعرف في بلاده شيئا، فقد جاء به والده وهو بعد في الصف الثاني الابتدائي، فحياته هنا، وذكريات طفولته لا تزال غضة هنا.

ومضة رابعة:

خارج الحدود عم حمزة تجاوز الستين خطوط وجهه تقول تجاوزها بكثير لكنه يخبرني أنه على مشارف الستين، يصعد كل يوم سلالم البناية التي تتكون من عشرين طابقا، برجليه النحيلتين وبقفير كبير مشدود إلى ظهره بحبال عريضة تتوشح كتفيه، يجمع القمامة من ثلاث شقق في كل دور، وينزل بقدمية لايرتاح إلا في الدور السابع كما يزعم.. يضغط على جرس شقتي آمر الشغالة، أن تدخله لتسقيه وتطعمه ليس من كدها من كدي، لكنّها تمارس سلطاتها عليه عندما أكون في الجامعة أو خارج المنزل لأمر ما، اشتكى لي منها واصفا (نبوية) الشغالة بأنّها حيوانة، ضحكتُ... ما أقسانا نحن البشر ضد بعضنا بعضا.. هي فعلا كما وصف لو صدق في كلامه، ذات مرة سألتها من دق الجرس؟ قالت عم حمزة، سألتها أين هو هذا العجوز منذ زمن لم أتحدث معه، قالت (بصراحة ما سمحت له بالدخول، ده خرفان ياستي ورجله وسخه، أنا أمسح الشقة وهو يوسخها، وياليت ينفع ده مره شتمني...) رددتُ فعلا حيوانه، (أيوه بالضبط يعني حضرتك سمعتيه وهو بيشتم)..

ذات يوم صادفتُ عم حمزة مكومًا في الدور الخامس حيث نزلتْ إحدى الساكنات، كان فاغرا فاه متوسدًا كيسًا كبيرًا من زبالة المرفهين، رميتُ كتبي هززته عم حمزة عم حمزة لم ينطق، صرختُ طلبًا للعون من أمن البناية ومن شقق الدور الخامس، الكل يشهق مسكين ربنا يرحمه، قادني أحدهم لشقتي ما يصحش تشوفي المناظر دي ياهانم، ادعي له بالرحمة، عاش غلبان ومات غلبان، نظرتُ إليه أنتم جميعا قتلة، لماذا تمنعونه عن استخدام المصعد، قال: ممنوع عندنا أوامر من سعادة اللواء، خرجتُ من ذهولي صارخة: الله يحرقكم أنت وسعادة اللواء يا شيخ، جلستُ أحاسب إنسانيّتنا المثلومة، تتصارع داخلي كلمات عم حمزة واصفة نبوية بحيوانة، وواصفًا رجال أمن البناية بكلاب، لا حول ولاقوة إلا بالله لكن الحيوان يا عم حمزة يصاب بالقرف لو شبهناه بهؤلاء، فالحيوان في أحيان كثيرة أكثر رأفة وأمانة ومراعاة للغير، هؤلاء تنطبق عليهم مقولة عبدالوهاب في أغنيته الشهيرة (من عذبك، بتخلصو مني، وذنبي إيه بتعذب فيه !) أحيانًا يعذبك الآخر بدون ذنب سوى أنها عُقد تراكمتْ داخله، ولم تجد متنفسًا إلا باضطهاد من هو دونه، ولأنّه لم يجد أصلا من يرأف به، يلجأ إلى هكذا تصرّفات مشينة لإزاحة القيح المتراكم في تجاويف قلبه، وهكذا تتدنى الإنسانية إلى حضيض الكراهية بلا مبرر، لا مبرر لتعذيبه لك يا عبدالوهاب سوى عقد تراكمتْ فيه ولم تجد سبيلا للإزاحة.

همسة لنا حكومة وأفرادا (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) لن ينقص شيء من ملك الله، لو حولتم عمل أولئك العمال إلى الليل، فالحر مقدور عليه لكن شمسنا تتعامد على الرأس خاصة في مسقط، وكأننا ندفعهم نحو الهلاك بتشغيلهم في هذا التوقيت، رجاء امنعوا من يسلع الإنسان، وامنعوا من يستعمل الإنسان بوحشية في عز الظهيرة القاتلة، صحيح ليس لهم من يدافع عنهم هنا، لكن لهم ربّ يحميهم يسمع ويرى. رجاء داروا عورات القلوب التي باتتْ متهتكة إنسانيًا. فالدين ليس صلاة وتفاخر بالصوم والحج والزكاة.. الدين سلوك أشك كثيرًا أننا نملكه إلا للتظاهر بأننا متدينون، ليزكينا بسطاء الناس، ونسينا أنّ ربنا ربّ القلوب، ولذا لن يثبت عمل الحسنة إلا بالنيّة الحسنة، لا أتحدث هنا بلسان المُصلحة الدينية؛ لكنني موجوعة حتى النخاع من ظلمنا كبشر لبعضنا بعضا ولأسباب غبيّة وأحيانًا غبية جدًا.

تعليق عبر الفيس بوك