حُسن الظنّ

مريم العدوية

(لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظنُّ بها سوءاً، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً)

ما أحوجنا إلى البساطة في كل أمور حياتنا. وإلى غيث من التسامح والأعذار، بلا ظنون تتصافح القلوب وتغيب المخاوف والشكوك؛ فيحسن كل طرف الصنيع حسبهُ بأن الآخر لا يكُن له سوى بالمثل من الحُب والمودة؛ فتنقشع غمامة الكراهية والعداوة التي بينهم ويبتعد الشيطان بخفي حنين بعد هزيمة كاسحة يعود بعدها الأحبة أدراجهم إخوة متحابين.

خلف كل تصرفات المرء اليومية تاريخ طويل وذاكرة عتيقة وتفسيرات قد يكون أغلبها إن لم يكن كلها مجرد أوهام وظنون؛ يسيئون الظن فيفتحون لكل سلبيات الخاطر الباب لتتوشح بوجه الواقع وترحب بهم قائلة: هيت لكم... نعم الواقع سيئ، أو لستم من تظنون أنّه كذلك، ذلك طبخ أفئدتكم، فهاكم الآن كلوا ما طبختموه!.

لكم هدم سوء الظن بيوتا كانت عامرة وقطع أوصال علاقات كانت متينة! فالإخوة من بعدها قلبوا للإخوة ظهر المجن وأصبح كل واحد منهم يوجس في نفسه خيفة من تصرفات الآخر، هكذا هي دائرة سوء الظن ملعونة بشباكها تُردي صاحبها من عرش الراحة والطمأنينة إلى جُب من الشكوك يفضي إلى التناحر والتباعد بل والحقد والحسد.

وأي شيء هو سوء الظن؟ إنه بوابة العبور الملكية للشيطان ليجلس بأريحية وبكل ثقة ونجاسة على قلوبنا وليسطر على عقولنا ومن بعدها تصبح كل جوارحنا عبدة له ولما يمليه عليها من أفعال تأكل من آدميتنا وطهر أرواحنا.

أصبح للأسف الكثيرون يحملون شعار (الزمن تغير) و (ولى زمن الطيبين) ونحوها من العبارات التي تَعد العدة لشحن الإنسان؛ ليخلع رويدًا... رويدًا عباءة إنسانه الطيب ويرتدي من وجوه العدوانية والحيوانية ما يشاء ليهاجم أخيه الإنسان؛ فيعلمون أبناءهم (كُن ذئباً وإلا أكلتك الذئاب)، زارعين في نفوسهم قيم الغاب ووحشة الزمن الذي بات شماعة لكل هذه الدوامة من التصرفات اللاإنسانية.

بينما يقول عباس محمود العقاد: "أحسن الظن في النّاس كأنّهم كلهم خيراً واعتمد على نفسك كأنّه لا خير في النّاس".

لنعد إلى جادة الصواب وإلى أوامر الله جلّ في علاه الذي علمنا أن نحسن الظن؛ لأنه من أعظم شيم المؤمن، الذي يرى في الآخر كل الخير تِبعاً للخير الذي يحمله في فؤاده نحو الآخر والعالم. وليتساءل ولو لمرة أولئك الذين يتخذون سوء الظن مبدأ يرفعون على أعمدته مظلة حياتهم البائسة، هل العالم حقًا يبدو بتلك الوحشية أم مظلتهم هي من أوحت لغمام السوء والكرب أن يمطرهم ديداناً تنخر كل ما تسقط عليه لترديه مخروماً مهزوزا؟! حسناً... هذا العالم سيئ بما يكفي، لذا كن أنت الشمعة التي تتحدى الظلام فذلك خير من أن تشارك الظلام مسيرته الغاشمة، كن أنت عكس السرب لو شئت، المهم أن تتحدث بما يحمله قلبك من خير.

إنّ حسن الظن لكفيل برتق كل تلك الصدوع والشقوق التي نشكو منها في حياتنا، لا بأس برسائل لم يرد عليها ولا عتب على مكالمات ما زالت تنتظر الرد، قل إنّ للحبيب صبر على حبيبه ولو جفا، واعفو واصفح واغدق الجميع بالكثير...الكثير من حُسن الظن.

ومن أجلك أنت لا الآخر وحسب، إياك... إياك وسوء الظن... فإنّك به ستنكث غزلا قضيتَ طوال حياتك عاكفا عليه، فالعلاقات تمامًا كأعشاش العصافير يقضي العصفور وقتاً طويلا في بنائها، بينما هدمها لا يتطلب سوى إزاحة بسيطة توقعها لتقضي عليها من الأساس.

أحسن الظن بآل بيتك الذين يتوددون لقلبك، فتوددهم من أجل محبتك لا من أجل شيء آخر يأتي عن طريقك، وإلى ابتسامة جارك وسلام عابر ومكالمة صديق ورسالة آخر وكلمة ذاك وغمزة هذا ومزح آخر. ولنجعل حسن الظن خُلقاً نتخلق به ونتطبع به حتى يصبح من بديهيات الأمور في حياتنا، فإن كان حسب كلام أبو حمزة الشاري: "حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة"، إلا أنّ حسن الظن رحمة لما يبعثه في النفس من راحة وسكينة وسوء الظن عذاب وشقاء لما يخلفه في قلب صاحبه، ولكل مقام مقال ومقام حديث أبو حمزة لا ينطبق على كل أمور حياتنا اليومية، وربما ذاك مقام حرب أكثر من سواه. وحسبنا قول قتادة: (إنّ الظن اثنان: ظن يُنجي، وظن يردي).

تعليق عبر الفيس بوك