فيصل الكندي: "الإسراء والمعراج" آية ربانية تنطوي على العديد من المعاني والعبر العظيمة

قال الباحث فيصل بن زاهر الكندي إنه رغم اختلاف علماء الأمة حول حادثة الإسراء والمعراج؛ وهل كانت بالروح، أم بالجسد، أم بكليهما معا؛ إلا أن تلك الحادثة تظل آية ربانية يُسرَّى بنورانيتها عن قلوب المبتلين، ويُزيد ما سبقها من أحداث يقين المؤمنين ومنزلة الصابرين.. وأضاف: تحل ذكرى تلك الحادثة العظيمة هذا العام في وقت تتقاذف فيه أمتنا الإسلامية أمواج البلاد، في فترة زمنية هي الأصعب استطلت فيها نيران الفرقة والتشتت، وتخلت عن الأمر الرباني الذي ارتضاه لها الخالق جل وعلا حين قال: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا".

وعلى الرغم من نداءات القرآن الكريم لها بالوحدة ولم الشمل والاحتكام الى كتاب الله ونبذ الفرقة والتحزبات، تجيء تلك الذكرى النورانية لتعيد التاريخ إلى الوراء، إلى حيث بداية الدعوة أيام بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما لاقاه من جَلل مقاومة قومه لدعوته؛ حتى تجلت العناية الربانية لحفظه، وحفظ دعوته الخالدة، وإكرامه برحلة الإسراء والمعراج.. وهي الحادثة التي تنطوي على العديد من الرسائل والمعاني العظيمة لمن استبصر بها ووعاها.

الرُّؤية - مالك الهدابي

وأوضح الكندي بأن ما شهدته الفترة ما قبل حادثة الإسراء، وما رآه نبينا الكريم في رحلة الصعود إلى السماء، وما تلى ذلك من أحداث؛ إنما يفيض بعِبَر لا ينكرها إلا جاحد، ولا يؤمن بها إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فضلا عما اختص الله إياها به من تشريفٍ بفرض ركن الإسلام الثاني فيها، وهو الصلاة؛ تلك العبادة التي يُتقرب بها إلى الخالق خمس مرات يوميا، يُسبغ عليه بها من نعماء الله وفضله وبركاته.

وتابع بقوله: إن "الإسراء والمعراج" معجزة ربانية وقعت في أحلك الفترات التي مرت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في بداية مرحلة الدعوة في مكة المكرمة؛ حين كان في كنف عمه أبو طالب الذي كان يتكفل بالدفاع والذود عنه.. جاءت في وقت صبَّت فيه قريش جامَّ عدائها له ولأتباعه من الصحابة الكرام، وتنامت حدة المعاداة وشدتها بعد فقده عمه أبو طالب، وما ابتلي به صلى الله عليه وسلم من فقد زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها، التي كانت بمثابة الأم الرؤوم والسند؛ والمؤازر وأول من آمن به من النساء، وبفقدهما اغتمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأُطلق على هذا العام "عام الحزن"، ومما زاد الأمر شدة ما لاقاه من أهل للطائف حين ذهب إليهم داعيا؛ لعله يجد متنفسا هناك لدعوته، وما قوبل به معارضة ورمي بالحجارة حتى أُدمي وجهه وجسده الشريفين.. فأرادت العناية الربانية أن تخفِّف عنه -صلى الله عليه وسلم- فجاءت هذه الرحلة تسرية له عن أحزانه وآلامه؛ فأسري ثم عُرج إلى السماوات العلا إلى حيث سدرة المنتهى.. في رحلة لم ينلها ولم يَشْرُف بها أحد من الخلق من قبل، ولا من بعد؛ كرامة له -صلى الله عليه وسلم- ولأمته.

وأردف الكندي يقول: إن توقيت الرحلة كان تدبيرا إلهيًّا جاء في توقيته، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول لعبده -صلى الله عليه وسلم- إنْ ضاقت بك الأرض بما رحبت، فإن الكون الفسيح لا يضيق بك، والسماوات تفتح أبوابها لك، وإن جحد الناس برسالتك وكفروا بها فإن العوالم الأخرى تؤمن بها، وهو ما تحقق بإيمان الجن به بعد تلاوته للقرآن بعد عودته من الطائف، واستقبال أهل السماوات له في رحلة المعراج.. وقال: إن هذه الرحلة تربِّي في الأمة معنى الثبات وعدم اليأس مهما أظلمت الدنيا فصاحب الرسالة لا يتزعزع ولا يميل ولا ينكسر وإستراتيجية التغيير والتبديل والمحاولة هي من شيم العظماء والفطاحلة وأصحاب الهمم الوقادة الذين يشمرون عن سواعد الجد، وهو ما نستنبطه من سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في دعوته لقومه في مكة المكرمة، وذهابه إليهم في نواديهم وبيوتهم في الليل والنهار، وذهابه للطائف؛ إذ إنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقبع في بيته يأسا من عدم استجابتهم، بل صدع بالحق رغم ما عاناه منهم وصبر عليهم، حتى أتى نصر الله والفتح.

وقال الكندي: الإسراء بالمصطفى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فيه من الدلالات ما لا يغيب عن كل مسلم؛ فالمسجد اﻷقصى هو قبله الأنبياء من قبل وقبلة النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحويلها، ويعتبر المسجد الثالث الذي تُشدُّ إليه الرحال بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، وفيه تتجلى آية من آيات الله تعالى؛ فالذهاب من مكة المكرمة إلى الشام كان يستغرق شهرا كاملا، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أُسري به وعرج به الى السماوات العلا وعاد في نفس الليلة، في وقت قصير من الليل، وفيه دَرْس للأمة بأن رسالة الاسلام مرتبطة بالعبادة والمساجد خُصَّت عن غيرها من الأماكن بالعبادة؛ فهي بيوت الله تعالى في الأرض وزوَّارها عُمَّارها، وبهذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن لنا من خلال حادثة الإسراء مكانة المساجد وأدوارها وأهميتها، كما أراد سبحانه وتعالى أن يورث هذه الأمة المقدسات الشرعية للأمم السابقة؛ فالكعبة أول بيت وضع للناس، والمسجد الأقصى متنزل الرسالات لكثير من الأنبياء والمرسلين، وفيه دلالة بأنَّ الإسلام سينتشر وستتوسع حدوده.

وتابع: إنَّ من أعظم جوائز رحلة الإسراء والمعراج هي "الصلاة"، التي هي صلة بين العبد وربه، والتي تتجلَّى فيها أعظم حالات العبودية والتذلل والاستكانة لله رب العالمين، والتي بها تقضى الحاجات وتتنزل الخيرات وتعم البركات وتستريح النفس من همومها وتشبع الروح من معين العطاءات الربانية، ويهجع القلب من مشاغله في تناغم تام مع تسابيح الكون فتندمج النفس البشرية معه فيشكلان كتلة واحدة تصدع بـ"لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وحدثت الحادثة بالليل لتعطينا دَرْسا بأن أنسب أوقات المناجاة هو الليل، واذا علمنا أنَّ جميع الفرائض فرضت علينا والنبي صلى الله عليه وسلم بيننا إلا فريضة واحدة فرضت علينا وهو بالملأ الأعلى في أعظم رحلة في الوجود؛ لتتجلى عظمة هذه الفريضة وقيمتها وأهميتها ومكانتها وخطورة الاستهانة بها، واستلمها النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلتا يديه وطبقها في حياته وصلى حتى تورَّمت قدماه، ولما سُئل عن ذلك وهو النبي الأعظم المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، قالها بقلب صاف مخلص مُحب: "أفلا أكون عبدا شكورا؟".

وأضاف الكندي: هكذا استلمها الصحابة الكرام والسلف الصالح من هذه الأمة باهتمام ومواظبة، فلم يتركوها في السلم والحرب، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، في المقام والسفر، في الأمان والخوف؛ لما عرفوا من قيمتها وأهميتها في حياتهم حتى وصلوا لدرجة أنهم لم يرفعوا أكفهم بالدعاء إلا قضيت حاجاتهم، واليوم رغم هذه الرسالة الربانية للصلاة وعظم أمرها ومكانتها، إلا أن البعض ما زال مُتهاونا بها، وكأنها لم تفرض عليهم، رغم أنها سرُّ السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وهي أول ما سيسأل عنه العبد يوم القيامة، وهي علاقة مباشرة مع الله تعالى، دون واسطة في أي وقت وزمان، وامتدح الله تعالى بها عباده المؤمنين وجعلت معيارا للشهادة بإيمان المسلم.

وأضاف الكندي: عُرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العلا ووصل إلى سدرة المنتهى؛ حيث مُنتهى الرحلة، وشاهد ما أراد الله تعالى أن يُريه إياه من الآيات والكرامات لينقل الصورة لأمته وليصف ما شاهده بعينه كأنه يراه أمامه، ومن ثم انقضت الرحلة وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة -شرَّفها الله تعالى- ولم تستغرق الرحلة إلا قليلا من الوقت لتكون آية ودرسا واختبارا لأهل مكة؛ فمنهم من صَدَّق ومنهم من كذَّب وثبت المؤمنون في الاختبار، وزاد تعلقهم بدينهم ورسولهم وصدقوه بما أخبرهم به لأنه هو الصادق الأمين.

وواصل بقوله: إنَّ هذه الرحلة تقدم لنا دروسا في الصبر وعدم اليأس ومحاولة فتح أبواب جديدة وسلوك طرق أخرى في سبيل تحقيق ما نريد وعدم التزعزع مهما أظلم الليل واشتدت المحن وتنزلت الكربات وانصبت المآسي فالفرج قادم والنور سيسطع والخير سيعم بالصبر والثبات والمحاولات وبالدعاء الخالص والثقة بالله -عزَّوجل- بأنه لن يضيع عبدا أطاعه وأقبل اليه وناجاه فهذا ديدن العظماء وأصحاب الهمم الوقادة والناجحين في الحياة وتتجلى في هذا الرحلة قدرة الله تعالى الذي لا تقف أمامه الأسباب لأنه هو من خلقها وأوجدها وكذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض بدائع صنع الله تعالى والاسراء والمعراج بحد ذاتها معجزة تضاف الى معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- وليعلم الجميع مكانته عند ربه وشجاعته عندما بلغ أهل مكة بما حدث له وما تظمن الاسراء والمعراج وظهر ثباته -صلى الله عليه وسلم- وعدم خوفه من تكذيبهم وظهر الإيمان الحقيقي للمؤمنين وتصديقهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعدم تكذيبهم به، ويبدو ذلك ظاهرا عندما أخبر الصديق -رضي الله عنه- بما حدث لصاحبه؛ فقال قولته المشهورة: "إن قال ذلك لقد صدق".

وعن صيام يوم الإسراء والمعراج، قال: لم يرد فيه دليل شرعي لا من القرآن ولا من السنة؛ فالصيام عبادة، والعبادات لابد لها من دليل شرعي يدل على مشروعية تلك العبادة، ولا دليل شرعي نصًّ على مشروعية صيام يوم الاسراء والمعراج. ومن جهة أخرى، هناك خلاف في توقيت حادثة الاسراء والمعراج تصل إلى 12 قولا؛ فالصيام إذا ممتنع من جهتين من جهة عدم ثبوت دليل شرعي، ومن جهة أخرى لم يرد دليل ثابت بتوقيت الحادثة، إلا أنَّ المشهور أنها في رجب.

واختتم قائلا: الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج لا يكون بإنشاء القصائد والأناشيد وضرب الدف وتزيين الشوارع والمحلات وتوزيع الهدايا والحلويات، وإنما يكون بأخذ العبر والدروس منها، وجعلها نُصب أعيننا؛ فهي الغاية من ذكر قصص الأنبياء والمرسلين في القرآن الكريم وليس الغاية منها ذكر القصة فحسب، ففي كل موقف منها عبر ودروس، وعلى كل واحد منا أن يستلهما ويستفيد منها في حياته، وأن يسأل نفسه ماذا قدم للمسجد الأقصى قضية المسلمين الأولى؟ وما هو حاله مع الصلاة؟ وماذا قدم للآخرة؟ وهل هو فعلا محب للنبي صلى الله عليه وسلم ومؤمن به؟ هذا ما ينبغي أن نفكر فيه عندما تمر بنا هذه المناسبة العظيمة..وغيرها من الأحداث والمناسبات، وألا تكون مشاعرنا هي رأس مالنا ووقود حياتنا وعجلة تقدمنا وتأخرنا تسحن وتبرد تثور وتخمد؛ فهذا ليس ديدن المؤمنين حقا، المصدقين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

تعليق عبر الفيس بوك