نقد الحال الرّاهن(15) التدبُّر

د. صالح الفهدي

في تجربة مصوّرة عن مخاطر استخدام الهاتف خاصّة لكتابة الرسائل النصيّة أثناء قيادة السيّارة، لم يستطع الشباب المستخدمون لجهاز المحاكاة أن يقودوا وهم يستخدمون الهاتف في الوقتِ ذاته دون أن يرتكبوا حادثة..! ويعقِّب المذيع بقوله: لو نقلنا هذه التجربة لأرض الواقع لرأينا كثيراً من الناس يستخدمون هواتفهم ويبعثون بالرسائل وأحد هذه الأسباب سيكلوجي(نفسي) بأنّه كلما أرسلنا رسالة نقنع أنفسنا فنقول لم يحصل شيء، ونُعيد العملية، وكلما أعدناها كلما تعودنا أننا في أمان ولكننا ليسوا كذلك..!!

أنطلقُ في استهلالي بهذا المثل إلى الحديثِ عن "التدبّر" في العواقب، وهو ما ألاحظهُ سبباً في الكثيرِ من نتائجِ أفعالنا..! و"التدبُّر" هو فريضةٌ إسلامية تقعُ في صميمِ الإيمان، تكادُ تكون غائبةً عن ثقافتنا إلاّ من الخطابِ الوعظي..!التَّدْبر معناهُ أن يتدبر الإنسانُ نفسه بالنظرِ في العواقب..!

عاقبةُ الموتِ مثلاً وهو خاتمةُ الوجود الإنساني على وجه الأرض إن نطقَ به ناطقٌ أُلجمَ فمه على الفورِ، وقيل له: لا سمح الله، لا تذكر الموت..! لا سمح الله على ماذا والموتُ هو مآلُ البشر..؟!، وتذكّرهم للموتِ عاملٌ مهم للتقوى بل واستغلالِ الحياةِ في كل منفعةٍ سامية، ففي الحديث الشريف:"أكثروا من ذكر هادم اللذّات فقيل: يا رسول اللَّه فما هادم اللذّات؟ قال: الموت،فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت وأشدّهم له استعداداً"[1]، لكن الموت يحضرُ اجتماعياً لأجل التحفيزِ في مجتمعاتٍ ماديّة تعشقُ مباهجَ الحياة..! إذ يخاطبُ الراحل ستيف جوبز Steve Jobs الرئيس التنفيذي لشركة آبل طلبة جامعة ستانفورد بقوله:" عندما كنتُ في السابعة عشرة من عمري قرأتُ عبارة تقول: إذا عشتَ كل يوم كأنّه آخر يومٍ في حياتك، ففي يوم من الأيام ستكتشف يقيناً أنّك على حق" ويضيف: منذ ثلاثة وثلاثين عاما وأنا أنظرُ كلّ صباحٍ في المرآةِ وأسألُ نفسي: إذا كان هذا هو آخرُ يومٍ في حياتي، فهل ما أريدُ فعله هو الذي أنوي فعله هذا اليوم؟ فإذا أتاني الجواب: لا ..! لعدَّةِ أيام عرفتُ أنني يجب أن أغيّرَ شيئاً ما..!" ويقول روبينشارماRobin Sharma أحد مدربي التنمية البشرية في كتابه "دليل العظمة": "عندما تستيقظ كل صباحٍ وتسأل نفسك: ما الذي كنت سأفعله اليوم لو كان هذا آخر أيام حياتي؟، فليس هذا تمريناً تحفيزياً تافهاً، ولكنه طريقة عميقة تضفي بها على أيامك قدراً من الإلحاحية والالتزام".

ولو أنّنا فعّلنا في أنفسنا قيمة التدبّر لسلِمنا من الكثيرِ مما أوقعنا فيه أنفسنا من أزماتٍ ومشكلاتٍ، إذ يقال: "من نظر في العواقب، سلم من النوائب"، لكنّ تجاهل التدبّر قد أنتجَ الاستهتارَ بالنفسِ فإذا بالسياراتِ تصبحُ أداةَ قتلٍ لا نقل، لأنها حُوّلت من وظيفتها الحقيقة لتيسير نقلِ النّاسِ إلى قتلهم..! ولو تدبّر كل من يستخفُّ ويستهتر وهو يستخدمُ الهاتفَ أثناء قيادةِ السيارةِ أو يُسرعَ أو يخالفَ القوانين في العاقبةِ لتصوّر المآل الذي يكونُ عليه، فأوقعَ ذلك في نفسه الخشيةَ من المصير، واستعاد زمامَ النفسِ بعد التمرّدِ والانفعال..!. لكن التدبّر غائب..!.

ولو تدبّرَ كل من يعقَّ والديهِ، أو يعامل النّاس ببطرٍ، وتعالٍ، وظلمٍ، لارتسمت أمامه صورُ العاقبةَ فأرعبتهُ النهاية..! لكن التدبّرَ غائب..!.

ولو تدبّرت الحكومات التي لا تراعي مبادئ العدالة الاجتماعية، ولا المساواةِ بين شعوبها، ولا سيادة القانون عاقبة أمرها لتفادت ثورات الشعوبِ المهانة، والطبقات المطحونة.

ولو تدبّر كلّ من يكتبُ كلمةً، أو يتلفّظُ بها كيف هو مآلها، وما هي آثارها، لسلمَ من نتائجها، وتجنبّ عواقبها، وهذا ما يحذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنّ َالْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّه ُبِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّم ُبِالْكَلِمَة ِمِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّم"[2]ولو تدبّر الناقلُ فيما ينقل إليه من كلام أو فيما يسمعه لما تهوّر فأوقع نفسه في إشكالات ومصائب..! يقول تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُم ْفَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"(الحجرات/6)، وفي العقيدة من النصوصِ ما فيها من الحثِّ على التدبّر حتى أصبحَ التدبر فريضةً إسلامية لكننا أشبه ما نكون غائبين عنها..! ولو حضر التدبّر لما قاتل المسلمُ المسلمَ لدوافعَ عنصرية وعصبية وطائفية ومذهبية أغلبها لا تمتُّ إلى أصلِ الدّين في شيء إلاّ أن تضلّ فئةٌ فلا تستجيب إلى الصلح..! ولو حضر التدبّر لما تلاعن مسلمان، وما تشاتما لأنّ الجامع أعظم، والموحّد أعصم..!!

ولو عُلِّمَ التَّدبرَ النشء منذ الصغر، لكبر وهو يتبصرُ في كل خطوة، وقرارٍ، وكلمة، وما تهوّر لأنّه ينظرُ في عاقبةِ الأمر قبل القدوم عليه، فلا يسرع مسرعٌ في الطريقِ لأنّه يوقن أن في السرعةِ الندامةِ، ولا يلتهي عند القيادةِ بما يلهيهِ لأنه يُدركُ أن سوء المقدمات يأتي بسوء النتائج، ولا يُوقدُ فتنةً لأنه يعلمُ أنّها أشدُّ من القتل، ولا يوغرُ بغضاء لأنّه يعلمُ أنها تفتُّ من عضد المجتمع، ولا ينشرُ الشائعةَ لأنّه يوقن أنّها تزعزعُ استقرار النَّاس، وتقوّضُ أمنهم. يؤثرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم نصحه لأحدهم طلب النصيحة منه بقوله: إذا أنت هممت بأمرٍ، فتدبر عاقبته، فإن يكُ رشدًا فأمضه، وإن يكُ غياً فانتهِ عنه .

إنّ بعض من يتسمون بالعلماء أو الدعاة أو المفكرين وغيرهم لا يتدبّرون في الفتوى أو الرأي أو وجهةِ النظرِ فإذا بها تطيرُ كالشرر فتحرقُ القلوب قبل المجتمعات، يحسبُ الواحد منهم أنه قال قولة الحق لكن للحقِّ طرقاً ليس من اليسير طرقها، والحكمةُ هي ضالةُ المؤمن أنّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها، بعضهم يحسبون أن التغيير يأتي بالانفعالِ والتشنجِ ودفعِ الناس إلى المهالكِ ولا يتدبرون في عاقبةِ هذا كلّه، فإذا وقعت الوقائع التي دعوا إليها هربوا هم من الميادين وتركوا ضحاياهم يواجهون المصيرَ المهلك..! أو سافروا للنزهةِ والترفيهِ عن النفس بعد أن خلّفوا وراءهم آمالاً مطوّحةً، وأراملَ بائسة، وأطفالاً يتامى، وأحزاباً متقاتلة تتوجهُ لكعبةِ واحدةٍ في صلاتها..!

نعلمُ "خلق الإنسان من عجل" لكن التدبرّ هو أمرُ لا يمكنُ تجاوزه لهذا العذر، فاستجلاءُ الخير من الشرّ واجب، وحسنُ التصرف في الأمورِ محتّم، واستنباطُ العواقبِ من الأسبابِ فرضٌ، وإدراك النافعِ من الضارِ ملزم.

لو فعلنا ذلك، لمَا هدمٌ إنسانٌ بيته بكلمةٍ متهورة لا يتدبر عاقبتها، ولمَا خاصمَ إنسانٌ إنساناً كَسْبُه أولى من خسرانه، ولمَا سعى الواحدُ منِّا للانتصارِ لنفسهِ لا للحق، ولمَا ألقى القائل كلمةً لا يدركُ عاقبتها وأثرها عليه وعلى السامع، ولمَا اتخذ قراراً لا يقودُ إلى نجاح، ولما قام بعملٍ ليس فيه توفيق. يقول سيدنا عليه كرّم الله وجهه:"لَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ" ذلك لأنَّ سلامة الحياةِ معقودةُ في التدبير، وإدارتها السليمة مرهونةٌ بالتدبّر،

إن سؤال: ماذا لو ؟! هو السؤال الجوهري المتعلّقِ بالتدبّر، فلو سأل كل إنسان نفسه: ماذا لو اتخذتُ القرار الفلاني، أو قلتُ هذه الكلمة، أو أقدمتُ على هذا السلوك، أو عبرتُ عن وجهةِ النظرِ هذه، أو اتخذتُ الموقف المعيّن .. فماذا يحدث؟! هنا يبدأ التدبّر في النتائجِ وتحليلها، واستنباط الخير والشر منها والتبيّن والاستيضاح.. وعليه يكون الإقدامُ أو الإحجام.. فما فائدةُ العقلِ إن لم يتدبّر ويميّز، إنّه إذن لثروةٌ مهدورة..! يقول المتنبي:

وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرهِ .. إذا استوت عندهُ الأنوارُ والظُّلمُ.

إنّ سبب إغفالنا للتدبّرِ في العواقب هو الوهمُ الذي نستسلمُ له بأن شيئاً سيئاً لن يقعَ، وسببٌ آخرَ هو الخَدَرُ الذي سرى في عقولنا بأننا بمنجاةٍ عن الوقوعِ في أيّة مآزقَ أو محنٍ بسبب الأقوال أو الأفعال الناتجة عنّا وهذه إحدى الإشكاليات العويصة التي كانت سبباً في الكثيرِ من معيقات التنمية الإنسانية في مجتمعاتنا. الواقعُية تحتم تفعيل التدبير، أما مجتمعات الوهم والخدرِ فتهربُ من الواقع، في حين أن مجتمعات المسؤولية تتحسب للعواقب وذلكدافع الحراك الحضاري.



[1]رواه الترمذي عن أبي هريرة.

[2]البخاري عن أبي هريرة.

تعليق عبر الفيس بوك