الوطن والمجتمع

نائب ربيع بيت مبروك

كنت قد تحدثت في المقال السابق عن الفقه القبلي ودوافعه، وهذه المرة دعوني أبرز شيئاً آخر، لأن بعض الإخوة القراء الكرام طلبوا مني وضع حلول تجسد ملامح الطريق الذي يسد منافذ ومنابع ذلك الفقه ومنهجية القبيلة، لكن الحل الذي نبحث عنه لا شك أنّه سيكون شاقاً وطريقه مضنيا منهكا للعقل والنفس والروح لأننا نقف أمام تيار عنيف جدًا وحاد بطبعه، قياسًا بطعمه ولونه ومذاقه وتراكماته ومواجهة الحل تحتمل التحديات وعوائق اجتماعية ومنهجية استفحلت رواسبها وتعمقت أصولها وما تملكه من أدوات وآليات ترافق برنامجها عبر قرون مضت، مكنتها من الاستيلاء على نفوذ أصبح مع مرور الزمن واقعًا مسلمًا به، من هنا أقول بأنّ الحل قد يكون شاقا بعض الشيء ويسيرًا في نفس الوقت، شاق لأن الأمر ليس بيدي وحدي ويسير لأنني أجد في ديننا الإسلامي كل الأوراق والحلول التي نبحث عنها جميعاً، والحل هنا يتعلق بالقدرة الذهنية وآليات التفكير التي يتمخض عنها السلوك الاجتماعي والإنساني والثقافي للفرد، والإيمان المفقود الذي سيحلق بالمؤمن في أجواء صحية وطمأنينة ويقين، وقابلية الاستعداد للتغيير والتجديد والتطوير، ومنطلقا من الإيمان الذي يُعزز الذات، ويفيض بالطاقة الإيمانية ننطلق، وذلك ما نحتاج إليه وإن كانت الألسن تدندن به، والرايات ترفرف وتزهو به، إلا أن العمل لا يطابق الفعل، وإذا ما عادت بنا الأيام إلى ماضي الإسلام، فإننا سنجد في ظلال الإسلام أن التعايش كان ممكناً والحياة شهدت مدى التعاون الإيجابي الذي كان سمة من سمات القيم الإسلامية وصفة من صفات العلاقة التي أسست لبناء أمة إسلامية، وكان ذلك هو الهدف المنشود، لقد تعايشوا بعاداتهم وتقاليدهم وبأعرافهم أيضًا لأن الدين الجديد نظم تلك العادات وهذب التقاليد وقرب المسافات بين الجميع وغير أسلوب المعاملات وجعل النّاس ينظرون إلى بعضهم البعض من خلال ثوب العقيدة الإسلامية فقط، كما اجتهد الإسلام للقضاء على الأمية والعبودية والطبقية، مثلما تفعل أيّ دولة في العالم لتجعل من الوطن حياة آمنة وكرامة واستقرارًا تعزز من هوية المواطن، وغطاء يحمي الجميع،ومساواة وعدل تبعث على الطمأنينة وتزرع السلام في كل أرجاء الوطن، الإسلام فعل ذلك، وزاد عليه أنه جاء بقيم مؤثرة وبنى في النفوس روحًا جديدة، كرم فيها الرجل وكرمت فيها المرأة والطفل ومن هنا تراجعت قيم المغالبة زمن الجاهلية وتغلبت قيم الإسلام العالمية، وأصبح العلم فريضة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) وفي أجواء العلم والمعرفة الدينية، خضعت كل التقاليد والعادات والأعراف للنظام الإسلامي الجديد وبات على المسلم القبول بصياغة وهيكلة البرامج الشرعية للإسلام، وإستراتيجية ومنهجية العقيدة الإسلامية، فلم يعد في الإسلام شرعية للقبلية ولا للعبودية، وذابت أنفاس الطبقية وتضاءل عنفوان وكبرياء العنصرية ـ وأصبح المجد والاستعلاء والفخر والتفاخر للإسلام وحده فقط وتوجهت العبادة والعبودية والطاعة والحكم بعد ذلك كلها لله سبحانه وتعالى، من هنا يستدعينا الحل ونبدأ بطرح هذا السؤال أولاً، هل نستطيع العودة إلى الإسلام وأخذ تعاليمه ومفاهيمه على محمل الجد؟ هل نقدر على العودة المهذبة وتصحيح الأخطاء المزدوجة وأن يتطهرالمجتمع من الشوائب والرواسب والمؤثرات التي علقت بذهنه أثناء فترة البناء والتربية والحضانة والبدايات؟ هل لدينا الرغبة والاستعداد للتغيير والتطوير والتجديد ؟ إذا كان لدينا كل ذلك فلنبدأ طريق الحل ومن الله التوفيق، التغيير يبدأ من الواقع ومن الذات التي تصطدم به ويصطدم بها، وكيفية المعالجة وهي بناء تلك الذات من جديد ومعرفة مسار الطريق ومسافاته والعوائق التي تحيط به، والمجتمع عليه أن يختار وأن يُحدد خياراته، وخطوته الأولى تبدأ بالتربية النفسية والاجتماعية، ثانيًا هناك عدة عناصر مهمة جداً لبناء وطن آمن هي القضاء على التفرقة والتعصب، فالوطن هو العزة، والفخر، والهوية والكرامة وهو الانتماء والشرف الذي يعلو على كل حسب ونسب، والجميع ينتسبون إليه والكل يعمل تحت رايته وفي ظله يشعرون بالطمأنينة والأمان، الوطن يجمع ولا يشتت، ويضم ولا يفرق، وهو فوق الجميع وفوق كل الفوارق والطبقات والطبقية، والعنصرية والمحسوبية، والاختلافات والأشكال والأنواع والألوان والصبغة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "كلكم لآدم وأدم من تراب"، ومن مصلحة كل مواطن أن يضع يده في يد أخيه المواطن وأن يعينه وأن يساعده على اقتلاع جذور كل شكل وكل نوع من أنواع الجهل والتخلف، ومن أجل الوصول إلى ما تم ذكره آنفا، أولا يجب أن تذوب الفوارق التي تؤثر على سلوك وأخلاق وقيم المجتمع والتي قد تبعث على التوتر والعداء، ولا ينبغي أن تقف الأمور عند القوانين وحدها وإنما ينبغي أن تنبع من صميم وأخلاق وقيم الفرد نفسه ورغبته في التواصل والشكل الإيجابي الذي ينعكس على الوطن والمجتمع بالتآخي والعمل الصالح، لاشك أنّ مجتمعنا العُماني ينبذ كل أنواع التطرف والإساءة للآخر، وحتى تلامس الحقيقة نبض المساواة والعدل لابد من تفعيل مدنية المجتمع وأخذ كل ذي حق حقه، حتى لا يصل الأمر عند البعض إلى رفض الواقع ويشكل ذلك تناقضًا في قياس المعادلة وميزان الحق، ومن أجل تضييق الفوارق الاجتماعية، يجب تطوير برامج تثقيفية طويلة الأمد تثبت الروح الإنسانية والوطنية والإسلامية، وتجفف منابع العنصرية والمحسوبية وكل أشكال الطبقية، ومما لاشك فيه أن محاربة التمييز بكل أشكاله وأنواعه ومكوناته وعناصره القبلية والطائفية والمذهبية تتطلب جهدًا مضاعفًا وحلولاً تحتاج إلى صبر وعمل صادق، العنصرية قد تشهدها كثير من الدول حتى وإن كانت تدعي المدنية لكنها من جانب آخر تشدد العقاب على من يمارس العنصرية أو التمييز بشكل عام ومتعمد، ونلمس ذلك في بعض الملاعب الرياضية كيف تشدد العقوبة ضد من يمارس الفعل العنصري، فما بالك بمن يتجرأ على الفعل ويقوم بأعمال شاذة القصد منها إيذاء الآخرين، والتهاون في مثل هذه الحالات وتجنب عقاب الفاعل لا شك أنه يوجه رسالة خاطئة مضمونها كما قال الشاعر الشابي (أين العدالة يا رفاق شبابي) من أجل ذلك التثقيف مطلوب وهو إحدى الوسائل الهامة لعلاج مثل هذه الحالات الصعبة والأسرة عليها أن تلعب دورها الأساسي في التربية والوعي وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وكذلك وسائل الإعلام ودورها الكبير وما يحويه من تواصل اجتماعي وتبقى المدارس والكليات والجامعات أهم الركائز الاجتماعية عليها أن تساهم فى تنظيف المجتمع وتطهيره من كل الشوائب والنجاسات والعاهات التي تتسبب في شق الصفوف وتقارب الإرادات، وهذه الأمراض العفنة قد تبيح الاعتداء على الآخرين وتزيد من جراح كان بالإمكان علاجها أو تفاديها، وأخيرًا (القبيلة) كان ينبغي أن تضمنا جميعًا كما يضمنا الوطن، وتحضننا كما يحتضننا ترابه، لأننا إخوة وأهل وأقارب، وأبناء وطن واحد، وترفض كل شكل من أشكال النبذ والكراهية، ولنا العبرة فيما يجري ويحدث من حولنا، عماننا بحاجة لنا جميعًا ونحن بحاجة إليها دعونا نعيش ونحيا في ربوعها بكل أمن وسلام وطمأنينة،في ظل مكوناتنا الاجتماعية ومختلف أطيافنا ليكون هذا التنوع مصدر قوة وإثراء لا يخالطه أي سلوك عنصري مقيت.

تعليق عبر الفيس بوك