نجم في سماء عمان قد انطفأ

زاهر بن حارث المحروقي

برحيل الشيخ خلفان بن محمد العيسري، ينطفئ نجمٌ في سماء عُمان؛ نجمٌ أضاء للأجيال الشابة الطريق، وهو الذي أفنى عمره القصير في خدمة الشباب وفي خدمة الإسلام والمسلمين، إذ سافر إلى بقاع الأرض المختلفة داعياً إلى الله بالتي هي أحسن، فكان صاحب رسالة استطاع بحكمته وبإلمامه بأدوات العصر أن يكون خير من يترجم الدعوة الإسلامية إلى الواقع، بعيداً عن التعصب المذهبي المقيت، وبعيداً عن الاعتماد على النقل فقط، حيث اعتمد على الأخذ بواقع الأمة، بلغته البسيطة والفصيحة، واستطاع من خلال فهمه للعصر أن يكوِّن لنفسه رصيداً كبيراً من حب الناس له، كباراً وصغاراً، وداخل عمان وخارجها.

وفي حديثه للزميلة نايلة بنت ناصر البلوشية في برنامج "حديث الروح" بإذاعة الشباب، قال إنّ معرفة متلقي الرسالة تساعد الداعية على أداء رسالته، ففي أوروبا مثلاً يجب التركيز على العلم والعقل، فهذا له تأثير على الناس، أما في أفريقيا فيجب التركيز على العدالة الاجتماعية وعلى حقوق الإنسان، وكيف أن الإسلام، أعطى للإنسان قيمته، أما في آسيا فالمسألةُ تحتاج إلى المزج بين الإثنين.

لقد كان الشيخ خلفان رحمه الله من الخطباء القلائل الذين يصلون إلى عقول وقلوب مستمعيهم، وذلك بما يحمله من رسالة في كلِّ خطبة يلقيها، لذا فهو يشد الحضور من أول لحظة يعتلي فيها المنبر وحتى نهاية الخطبة، لأنه لا يعتمد على صف الكلام - كما هي عادة غيره-، وإنّما لأنّه صاحب رسالة ورؤية ومشروع للأمة، ومن هنا فإنّ رسالته تصل إلى المتلقي أياً كان، لذا استطاع أن يجعل من جامع "أبي الحسن البسيوي" في الحيل الجنوبية منارة ربانية؛ حيث يتزاحم المصلون خاصةً من فئة الشباب لأداء فريضة الجمعة وبقية الصلوات؛ وكذلك يمتلئ مصلى النساء بالمصليات، وبفضل جهود الشيخ خلفان أصبح الجامعُ نشيطاً في خدمة المجتمع، من خلال مساعدة المحتاجين وإقامة حلقات التدريس للنساء، ثم إنّ الشباب هم عماد صلوات التهجد في الجامع خلال شهر رمضان المبارك، لأنّ الشيخ خلفان رحمه الله، كان يركز كثيراً من خلال خطبه على أهمية رمضان، بل إنه في شهر رمضان الماضي، قال في خطبته، "إنّ من ضيّع شيئاً أو قصّر في شيء فالفرصةُ أمامه، فالواحد لا يعلم هل يلحق رمضان القادم أو لا..؟! فكم من إنسان كان معنا رمضان الماضي فلم يعد موجوداً الآن، وكم من إنسان موجودٌ الآن بيننا قد لا يحلق الرمضان المقبل"، وكأنها كانت إشارة مبكرة لغيابه في شهر رمضان المقبل.

لقد أعاد الشيخ خلفان للمنبر هيبته؛ لأنه كان يعلم تمام العلم أنّ المنبر هو طريقٌ لتغيير واقع المسلمين إلى الأفضل، لذا كان يركّز كثيراً على الشباب من خلال غرس قيم العلم والأخلاق والعمل والإنتاج، ويركز على مبدأ تثقيف الذات مع الاهتمام على الحث على القراءة المفيدة، وتميّزَ بأسلوب شائق سهل ممتنع، بحيث يصل إلى عقل وقلب كلّ الحضور، لأنه يتكلم عن أمور معاصرة نعايشها جميعاً ونعلمها، ولا يخاطبنا عن الماضي فقط؛ الذي حفظناه ومللناه، فهو كان قادراً على قراءة الواقع قراءةً سليمةً من خلال متابعة ما يحدث في المجتمع ويصف الداء ثم يُقدِّم الدواء.

تعامل الشيخ خلفان العيسري مع الأحداث من خلال البحث عن المشكلة ومحاولة وضع الحلول لها، لذا نجده دائماً يحث على بناء شباب عماني مسلح بالثقافة والأخلاق والعلم والمعرفة، ويحثهم على العمل المنتج، داعياً الشباب إلى الابتعاد عن كلمته المشهورة وهي (الشاي - والشيشة - والشاشة)، ويرى أنّك إذا أردت أن تقيس تقدم الأمة من تأخرها فانظر إلى شبابها في ثلاثة أمور هي: ثقافة الشباب، وإنجازاتهم، وكيفية استغلال أوقات فراغهم، ويرى أنّ المسؤولية تقع على الجميع في مساندة الشباب وتوجيههم، وكثيراً ما ركز الشيخ العيسري في خطبه على أوضاع الأمة الإسلامية، ويرى أنّ الأمة تفتقر اليوم إلى الأساسيات، فأصبحنا في المؤخرة بين الأمم.. في العلم.. والصناعة.. والاختراعات.. والتجارة.. وحتى في المعاملات وهذا مؤلم، لأنّ الأمة أصبحت مشغولة بتصيّد هفوات الآخرين، في وقت يتحدث فيه الكلُّ عن المثالية في الأخلاق؛ فأهملت الأمة إصلاح الذات وبناء القدرات فتخلفت بين الأمم، وقد قال في إحدى خطبه:" نعم نتألم عندما تخلفت الأمة عن العلم وجادة الصواب والبحث والاكتشافات والاختراعات ... نتألم عندما تكون الأمة مستهلكة لا منتجة، تابعة لا متبوعة".

أما عن الإصلاح، فكان يرى الشيخ خلفان أنّ على المصلح أن يراعي جوانب كثيرة في الإصلاح؛ مثل الطبيب الماهر في وصف العلاج والمدة الزمنية، فنحن نجد في سيرة معلم البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، نماذج كثيرة في الدعوة والإصلاح باللين وبالتي هي أحسن، وهذا ما يميل إليه الشيخ خلفان دائماً ويبتعد عن الغوغائية وعن إثارة مشاعر الناس خاصة الشباب، ويركز على بناء الوطنية الإيجابية بعيداً عن السلبيات، وفي حادثة الأوبرا، التي أثارت ضجة واحتجاجات؛ عندما استضافت دار الأوبرا السلطانية مساء الخميس 28 فبراير 2013 حفلاً موسيقياً لفرقة الجاز الأمريكية المعروفة باسم "باندواغن"، واستهل أحد أفراد هذه الفرقة مقطوعته الموسيقية بتلحين وغناء سورة الفاتحة، مما أثار عاصفة من الاستهجان.. فأصدرت دار الأوبرا السلطانية بياناً عبرت فيه عن "أسفها البالغ" لما حصل، مضيفة في بيانها أنه "بتتبع الحادثة فقد اتضح لإدارة الدار بأن من قام بقراءة سورة الفاتحة أثناء العرض هو رجل مسلم تصور أن تكون قراءة القرآن في دولة إسلامية سيُسعد الحضور مؤكداً إن قراءته للقرآن لم تكن بدافع السخرية أو الإستهزاء وإنما تعبيراً عن حبه له لكونه مسلما"، في هذه الحادثة أشار الشيخ خلفان في خطبة الجمعة، أنّ أحدهم قد يمر على الشباب وهم في منكر ولا يتكلم، ويرى الآخرُ في بيته منكراً ولا يتفوّه بكلمة، ويجلب الآخر لأهله المنكر إلى البيت ولا يخاف، فإذا أخطأتْ جهةٌ مسؤولة ثارت ثورته، ويرى أنه مؤلم جداً عندما يكون طلب التغيير بأفكار وأساليب غريبة عن ديننا ومجتمعنا وأخلاقنا؛ فالتغييرُ ليس بالعواطف ولا بالشعارات، بل بإصلاح الذات أولاً، لأنّ الكثيرين يفكرون في تغيير العالم، ولكن القلة هم من يفكرون في تغيير أنفسهم "إنّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

لقد كان الشيخ خلفان مهموماً بقضايا الوطن، وأذكر أنه في عزاء والدته رحمها الله التي سبقته في الرحيل وهو في شدة مرضه، سألني: كيف ترى اهتمام الدولة في محاربة الفساد، وهل تعتقد أنّ ذلك سيستمر أو أنه مؤقت..؟!

بعيداً عن المنبر فإنّ الشيخ العيسري يتميّزُ بالعديد من الصفات التي جعلت منه داعية مخلصاً حتى ذاع صيته وبات معروفاً داخل البلاد وخارجها، ويتحدث عن نفسه في هذا الجانب قائلا: "لقد رزقني الله عز وجل بعض الصفات التي أحاول استغلالها في حياتي اليومية وأحث عليها الآخرين، فأنا والحمد لله إيجابي في حياتي ومتفائل دائماً ولا أحب التشاؤم أو السلبية، بل أعتبرها من الأمراض التي فتكت بأمتنا الإسلامية وأوصلتها لما هي عليه اليوم، كما أنني أتمتع بسعة الصدر وطول البال وعدم استعجال النتائج".

ويبين نصر بن غالب بن خليفة البوسعيدي مؤلف كتاب "المنهج الدعوي عند الشيخ خلفان بن محمد العيسري" الأنشطة الدعوية التي يمارسها الشيخ محلياً وعالمياً، ويقول: للشيخ خلفان العيسري عدة طرق ووسائل في مجال الدعوة منها: الحوار الصريح والمباشر مع الآخرين، وذلك من خلال لقائه بمختلف الشعوب والجنسيات في الزيارات التي يقوم بها، والتأثير في الآخرين من خلال تطبيق سلوكيات وأخلاق وآداب المسلمين الصحيحة والابتعاد عن كلِّ ما يسيء إلى الإسلام والمسلمين، والمحاضرات والخطب التي يحرص على إلقائها في المناسبات المختلفة وبلغات مختلفة بما فيها خطبة الجمعة (مع الإشارة إلى أنّ الشيخ يتكلم 6 لغات بطلاقة)، والمقابلات واللقاءات الإعلامية المختلفة، وكذلك استغلال وسائل الاتصالات الحديثة، وكلُّ ذلك قد أتى أكله حيث أسلمَ على يديه أكـثر من 300 فرد من جنسيات مختلفة، ومنهم أصحاب مراكز ودرجات علمية عليا، وله نشاط دعوي محمود في جامع السلطان قابوس الأكبر مع الجاليات الأجنبية.

وأختم مقالي هذا بقول الشيخ خلفان "إنّ قوتنا في شيئين اثنين، ومجدنا سيعود من خلالهما: اتباع أول آية نزلت (اقرأ)، واستغلال الأوقات في المفيد من خلال إصلاح الذات ورفعها الى معالي الأمور".

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك