الثورات ونتائجها الكارثية

صالح البلوشي

في كتابه "عاشق لعار التاريخ" يصف المفكر السعودي الراحل عبد الله القصيمي الثورة بأنها: "كالحرب، هما لا تصنعان الحضارة ولكنهما قد تسرقانها أو تستقويان وتتغذيان بها، إنّ أية حرب أو ثورة تقع في عصر متخلف غير متحضر لا يمكن أن تهب تحضرًا ولا تقدماً، بل ولا أن تشعر بالحاجة إلى ذلك، وإنما تهب آلاما وتشويهات شاملة، وكم في التاريخ من أمثال هذه الحروب والثورات العقيمة".

الثورة مصطلح سياسي يُعبّر عن فعل جماهيري / شعبي ضد الوضع الراهن من أجل الانطلاق به إلى التغيير نحو الأفضل، ولكن بقراءة سريعة لتاريخ الثورات في العالم نلاحظ أن الثورات لا تصنع دائمًا تغييرًا نحو الأفضل ما لم يرافق ذلك وجود فكر تنويري يستطيع قيادة الأمة إلى النهضة والتغيير الحقيقي.

ومن يقرأ تاريخ الثورات في العالم العربي لا يجد ثورة واحدة صنعت تقدمًا أو حضارة، بل أعقبها حروب أهلية ودمار أحرق الحرث والنسل في البلاد. ولعل الخروج على الخليفة عثمان بن عفان كان أول خروج على السلطة السياسية في التاريخ الإسلامي، ولكنه كان خروجاً مشؤومًا، ولم يستطع المسلمون التخلص من آثاره السلبية حتى اليوم، فقد أعقب ذلك ثلاث حروب أهلية تسبب في مقتل آلاف الصحابة والتابعين، حتى أن المفكر والأديب المصري طه حسين عندما ألف كتابا من جزأين عن تلك الفتره أسماه "الفتنة الكبرى". وأما في العصر الحديث فماذا قدمت الإنقلابات العسكرية التي حدثت في النصف الثاني من القرن الماضي وسميت زورا بـ "الثورات" في العراق وسورية ومصر وليبيا والسودان لشعوبها غير الحروب والدمار وانتهاك حقوق الإنسان؟

وعندما نأتي إلى الحاضر فالوضع أسوأ بكثير. فعندما انطلقت رياح التغيير في دول "الربيع العربي" فإنها لم تنطلق من خلفية فكرية أو أيديولوجية واضحة، وإنما كانت الجماهير في بداية انطلاقتها تطالب بإصلاحيات اجتماعية بالدرجة الأولى، تتعلق بتحسين الوضع المعيشي للمواطنين، إضافة إلى رفع قوانين الطوارئ التي كانت قد فرضت في ظروف سياسية معينة. ولكن الأحداث - ونتيجة لظروف داخلية وخارجية- انحرفت عن مسارها الإصلاحي، لتتخذ طابعاً عنيفًا وتطالب بإسقاط النظام السياسي من جذوره، دون أن يكون لهذه الجماهير أي برنامج حول طبيعة نظام الحكم التي تطالب به في المرحلة القادمة، بمعنى أنها كانت "ثورات" من أجل التغيير، دون تقديم البرنامج البديل عن هوية هذا التغيير، والآليات التي تقوم عليه، لإفتقادها إلى مرجعية فكرية تقوم وتستند عليها في ذلك.

ورُبّ قائل يقول بأنّ ما يحدث اليوم في دول "ثورات الربيع العربي" من إنفلات أمني، وشرخ طائفي، إنما هو أشبه بمخاض عسير، من أجل ولادة جديدة لهذه الدول تتخلص بها من الأمراض الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي فتكت بها طوال عهود "الإستبداد". ولكن التجارب القديمة والمعاصرة أثبتت خطأ هذه المقولة. فقد مرّت دول عديدة بهذه "الثورات" فدخلت في حروب أهلية ونزاعات مسلحة راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر، ولكنها لم تستطع حتى الآن الخروج من هذا "المخاض العسير"، بل دخلت في نفق مظلم لم تستطع الخروج منه حتى الآن، ولعل تجارب العراق والصومال والسودان وأفغانستان وغيرها تمثل نماذج بارزة على ذلك. ويحاول البعض الآخر المقارنة بين هذه "الإنتفاضات العربية" والفوضى التي أعقبتها -وما تزال- وبين الثورات الكبرى التي شهدها العالم مثل الثورة الفرنسية والروسية وغيرها، ولكن المقارنة بين هذه "الانتفاضات" وبين تلك الثورات لا تقوم على منهجية سليمة، فإن تلك الثورات عندما قامت كانت تملك رؤى واضحة في عملية التغيير السياسي. فالثورة في روسيا انطلقت بزعامة مفكرين كبار أمثال لينين وتروتسكي ونظريات الفيلسوف العالمي كارل ماركس، في سبيل التحرر من الإستبداد السياسي والديني معا. وقد واجهت الثورة صعوبات كثيرة جدا ولكنها إنتصرت في النهاية، لأنها كانت تملك فكرا ناضجا وفلسفة تقوم عليها، ومع ذلك فإنها خلّفت ملايين الضحايا من الأبرياء، وأقامت سلطة شمولية استطاعت أن تحكم لمدة سبعين عاما، ولكنها سقطت في النهاية، وكان سقوطها من الداخل بالدرجة الأولى. أما الثورة الفرنسية فإنها قامت بسبب سوء الأحوال الإقتصادية، والرغبة في الإصلاح الإقتصادي والسياسي، إضافة إلى الإصلاح الديني، وإنهاء النفوذ الواسع للكنيسة الكاثوليكية في البلاد. وكانت أوروبا -وفرنسا خاصة- تشهد في تلك الفترة نشاطا كبيرا من الفلاسفة والمفكرين من أجل النهوض والإصلاح. ومن أبرز هؤلاء فولتير (1694 - 1778)، الذي ألف في تلك الفترة كتابه المهم "رسالة في التسامح"، ودنيس ديدرو (1713 - 1784) الذي كان أحد اشهر فلاسفة التنوير الأوروبي وصاحب مشروع "الموسوعة الفلسفية والعلمية الكبرى"، وجان جاك روسو (1721 - 1778) الذي كان لكتابه "في العقد الإجتماعي أو مبادئ القانون السياسي" دور كبير في ترسيخ مبادئ الحكم الجمهوري والقوانين المدنية بين الفرنسيين، إضافة إلى المفكر السياسي الكبير مونتسكيو (1689 - 1755) صاحب كتاب "روح القوانين". إضافة إلى ذلك فقد رفعت الثورة شعار المساواة بين الجميع في المجتمع، بينما نجد أن الصورة معكوسة في دول "ثورات الربيع"، فقد أحدثت رياح التغيير فيها أسوأ شرخ طائفي وديني بين الفئات الدينية المختلفة في تاريخها. فمن كان يتصور أنه يأتي يوم يُقتل فيه المواطن في العراق وسورية على الهوية؟ من كان يتخيل أنه تُباد دولة بأكملها من أجل تغيير رئيس النظام فيها، لأنه ليس من الطائفة الفلانية؟ وتُقصف مدينة بأهلها المدنيين لمجرد أنهم ينتمون إلى المذهب الفلاني؟ من كان يتصور أن يكون المواطن غريبا في وطنه ومجتمعه، لأن الأقدار شاءت أن يولد سنيا أو شيعيا؟ للأسف فإن جميع ذلك يتحقق اليوم في البقعة الجغرافية الكبيرة التي تسمى بالوطن العربي، بعد أن أختفت شعارات الوحدة الخالدة التي كان يتغنى بها العرب من المحيط إلى الخليج، لتحل محلها شعارات إقصائية، ومتخلفة، وقروسطية مثل "وحدة الدم السني"، أو "يا لثارات الحسين".

إن التغيير كائن منفصل عن الثورة، وليس بالضرورة أن تكون هناك ثورة حتى يكون هناك تغيير في البلد وبنيته السياسية والإجتماعية. فهناك دول عدة شهدت تغييرات كبيرة في بنيتها السياسية، وانتقلت بشكل سلمي من النظام العسكري إلى المدني مثل تركيا وأسبانيا والبرتغال وغيرها، وبالمقابل، ماذا حدث في الدول التي حدثت فيها ثورات غير الخراب والدمار؟!

تعليق عبر الفيس بوك