القصة المحزنة للمرض

أحمد الرحبي

لقد كان الطب بكل ما تحقق في مجاله من إنجازات طوال تاريخه الطويل منذ أيام البابليين والفراعنة مرورا بالإغريق واليونانيين والعرب، يعتبر استجابة ملتاثة لذلك الاختلال الذي يبدأ بالحدوث فجأة داخل الجسم (جسم الإنسان) والتأثير في بعض وظائفه، والذي عزا بعض اليونانيين القدماء حدوثه إلى بخر تعفني غير مرئي يحدث تلقائيا في الجو كما فسر المعالجون الصينيون ظاهرة حدوثه خاصة مرض الجدري بأن مصدره سموم في الرحم تنبعث أثناء الاتصال الجنسي.

إلا أنّ المحاولة لسرد القصة المحزنة لتاريخ المرض على ظهر كوكبنا الأرضي بشكل متماسك منذ أن بدأت بعض الأجسام الغريبة تجعلنا نمرض، هي محاولة محفوفة بالفشل فأجزاء كبيرة من هذه القصة غائبة، فهي تبقى ضائعة في مجاهل التاريخ السحيق لتطور الجنس البشري على الأرض، وبعض الأجزاء من قصة المرض غير المكتملة تبقى سرًا مخزنا داخل الجينوم البشري والميكروبي كما يقول العلماء، لكن الخطوة الأولى (خطوة الفاتح) تلك التي خطاها المرض على أجسادنا في التاريخ المبكر لتطور الجنس البشري، ربما كانت الحد الفاصل بيننا وبين أسلافنا الأوائل الذين يجزم بعض علماء الإنثروبولوجيا أنّهم عاشوا بدون أمراض تقريبا.

لكن بداية القصة لهذا الافتراس المرضي الذي بات الجسد البشري معرضا له من قبل الأمراض والأوبئة المختلفة والتي تعددت وتطورت في أنواعها وتباينت في الخطورة التي تشكلها والآثار المترتبة عنها على الجسم، ربما جاءت في سياق تسديد ثمن الحضارة، فأغلب أمراضنا المعدية الخطيرة ندين بها إلى الظروف التي أدت إلى ما حملناه من إرث ثقافي واجتماعي مثل المناطق المدينية التي تكونت نتيجة زرع المحاصيل في السهول المغمورة في بلاد ما بين النهرين ومصر ووادي نهر الهند، وقطع مساحات شاسعة من الغابات أو إحراقها واستصلاحها للزراعة وأغراض الاستيطان، كما أنه من المحتمل إننا بعد ترويضنا للحيوانات، قد احتككنا عن قرب بميكروبات أصبحت مضرة بمجرد دخولها إلى أجسادنا مثلما يوضح أحد المهتمين بتاريخ الأمراض، فبإمكان البكتيريا كما أظهر العلم الحديث خلال يوم واحد فقط، من تخليق ثلاثين جيلا بطريقة الانقسام، وهو ما تستغرقه إلى حد ما أكثر من 1000عام من فترة حياة الإنسان، والميكروبات التي تعيش داخل كل إنسان تزيد على عدد سكان الأرض كافة، وهي تفوق عدد خلايانا بنسبة 9 إلى 10.

ولقد تحققت الانعطافة المهمة في تاريخ المرض بما أسهم بعد ذلك نحو فهم أعمق لهذا الاختلال الذي يحدث لجسم الإنسان، بعد ثلاثة قرون منذ أن لاحظ صانع العدسات أنتون فان ليونهوك في القرن السابع عشر، بأن جزيئات حيوانية ظهرت له تحت عدسات الميكروسكوب الذي اخترعه، حيث جاء بعده الكيميائي الفرنسي لويس باستور، ليقدم الإطار العام لفهم هذه المخلوقات الحية التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، فأثبت باستور بأن الميكروبات يمكن أن تكون أداة حميدة ومفيدة بنفس القدر الذي تكون فيه ألد أعدائنا.

ومنذ أن تمّت الإشارة إلى الصلة بين الميكروبات والأمراض والتي وصفها دارون في كتابه أصل الأنواع بأنها (هذه الإشارة) تعد الانتصار الأعظم الذي يحققه العلم على الإطلاق، حتى نشأت تجارة محمومة لمنتجات قتل الجراثيم ما زالت مستمرة إلى وقتنا هذا مستغلة الرهاب الناتج عن تصوير الجراثيم على هيئة شياطين، وبرغم أن تاريخ المرض لا ينفصل في الحقيقة عن تاريخ الميكروبات والجراثيم، فإن قرار قتلها واستخدام المضادات الحيوية بكثرة ضدها وذلك أملا في إغلاق ملف الأمراض المعدية نهائيا أدى بعكس ما هو متوقع، فكانت النتيجة أن صعدنا من حدة السباق مع الجراثيم والميكروبات الذي سرعان ما سيضعف أكثر الأدوية الجديدة قوة ويجعلها عديمة النفع والفائدة.

وإذا كان هناك من إضافة أو تكملة لقصة المرض القديمة قدم الإنسان، يمكننا القول إن هذه الإضافة أو التكملة ساهم بها الإنسان في العصر الحديث من دون أن يقصد، من خلال ما يعيشه في هذا العصر من طفرة تغيرات وتبدلات عميقة في ظل حياته العصرية التي يعيشها، مست طريقة حياته والعادات اليومية المتبعة، بالإضافة إلى تغير سلوكياته الغذائية والتي، إنعكست بالتالي على صحته، فقد بات الإنسان يعاني في هذا العصر بسبب هذه التبدلات والمتغيرات في طريقة حياته والعادات اليومية المتبعة في معاشه، من جملة أمراض تهدد صحته وحياته كالسكري وإرتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، ومختلف الإصابات بأنواع متعددة من السرطانات، وهي إضافة تعتبر ربما الإضافة الأهم والأخطر لهذه القصة المحزنة للمرض، إلى جانب الأمراض التقليدية التي ظل يعاني منها الإنسان طوال تاريخه على هذه الأرض!.

تعليق عبر الفيس بوك