فهم المواطنة وممارساتها السليمة.. ضرورة وطنية

زينب الغريبيَّة

في ظل التحولات التي تشهدها الدول العربية بشكل عام، وما وصل إلينا في بعض دول الخليج العربية، ثمَّة حراك نحو تفعيل مُشاركة المواطنين الفاعلة في شؤون وطنهم، بالمشاركة الواعية والعقلانية المتزنة من خلال المؤسسات البرلمانية، والمطالبة باستكمال حقوقهم وممارستها؛ وهذا بلا شك يعني أنَّ بلادنا الخليجية تمرُّ بمرحلة تحوُّل نحو مشاركة غير مسبوقة تقتضي تدعيم وتعزيز التربية من أجل المواطنة، حتى يكون لهذا التحول أثره وفاعليته على عملية التنمية المستدامة، وعلى الحفاظ على هوية البلد ووحدته الوطنية، وعلى إيجابية المواطنين ومشاركتهم.

ثمَّة حَرَاك عالمي واضح في مجال تربية المواطنة، إلا أنَّ الاهتمامَ بها كان ضعيفا في الوطن العربي، لم يتعدَّ إجراء دراسات متناثرة هنا وهناك للحصول على درجة علمية، أو إقامة ندوة أو مُؤتمر بين الفينة والأخرى، ناهيك عن ضِيْق النظرة لمفهومها الذي لا يتعدَّى تطبيق مادة التربية الوطنية، وربما اعتقدَ البعضُ أنَّ المواطنة شُعور فطري يُولد مع الإنسان، ولا يمكن تعليمه في المدرسة.

إلا أنَّ النقاشَ حَوْل المواطن والمواطنة يظهر -وبقوة- في ظلِّ الأحداث التي شهدها الوطن العربي في الآونة الأخيرة؛ فتدور النقشات والأحاديث حول حقوق المواطن، ودوره في المساهمة في بناء مجتمعه، وعن أهمية قيام المدرسة بدورها في إعداد مواطنين فاعلين ومسؤولين.

وعلى الرغم من المسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتق المدرسة -كونها المسؤول الأول عن إعداد الطلاب لتلبية حاجات سوق العمل، وإعدادهم في إطار هويتهم الخليجية العربية الإسلامية، وإعدادهم للتفاعل مع تغيرات العالم المختلفة- وفي ضوء هذه التحديات وتعدد تلك الوظائف المطلوب من المدرسة تأديتها في ظل العولمة، تبقى المدرسة في حالة عدم يقين يتمحور حول هذه الوظائف المطلوبة؛ فهل الأولى إعداد الطلاب لتلبية متطلبات سوق العمل؟ أو إعدادهم لتلبية مُتطلبات المواطنة في عالم تداخل فيه المحلي بالعالمي؟ وعبَّر بعض المهتمين بشأن التعليم -بشكل صريح، أو غير صريح- عن مخاوفهم من تأثر هُوية المجتمع وقيم أفرداه، فيما يرى آخرون أنَّ ما يُحدِّد قوة المجتمعات في المجتمع العالمي المعاصر ليس خصوصيتها، بل قدرتها على المنافسة الاقتصادية؛ من خلال تزويد خريجيها بالكفايات التي يتطلَّبها العمل في بيئة اقتصادية تتميز بالتنافس، والقدرة على الإبداع، والتواصل باستخدام أكثر من لغة.

إلا أنَّ مُهمَّة إعداد الطلاب لممارسة حقوق المواطنة ومسؤولياتها عن وعي وقناعة ومعرفة تُعدُّ المهمة الرئيسية التي من الضروري أن تقوم بها؛ فوعي الأجيال بهذه الحقوق والواجبات والمسؤوليات وقناعاتهم بها لا يأتي مصادفة، بل لابد أن تمرُّ بتربية مقصودة عبر المدرسة...وغيرها من المؤسسات وفق رؤية منهجية لا تعي الغايات والأهداف فحسب، بل تعي الدور المهم للمعلم كونه الشخصية الأهم التي ستساهم في هذه المهمة؛ فمن الأولى إعداده كمواطن قبل أن يُعد كمعلم؛ فهو من سيقوم بتجسيد سلوكيات المواطنة لطلبته. وهذه المهمة لا تُؤتي أكلها دون معرفة المصادر والأدوات المنهجية التي يمكن أن تساعد على الوصول إلى تلك الغايات ومدى توفيرها.

وفي ضوء ذلك، لابد أن تكون هناك نظرة متوازنة لوظيفية المدرسة؛ بحيث تهتم بإعداد طلاب قادرين على الإنتاج اقتصاديًّا، وفي الوقت ذاته يكونون نشطون مدنيًّا واجتماعيًّا. ومن هنا تبدو الحاجة ماسة لإعطاء مزيد من الاهتمام بالتربية من أجل المواطنة.

وتعدُّ التربية حقًّا من حقوق المواطنة الرئيسية، وهي أداة للتنمية، ليس الاقتصادية فحسب بل والاجتماعية والثقافية والسياسية أيضا؛ فالدولة التي تسعى من خلال نظامها التربوي إلى إحداث تحوُّل بنيوي في الفرد وفي المجتمع الذي يعيش فيه، وفق رؤية متزنة ومعتدلة في كل شيء؛ فهي تسعى بذلك إلى بناء شخصية مواطن متزن إذا ما وضعت في مواجهة الثنائيات الصعبة التي تتمثل في: الموازنة بين الماضي والحاضر، وبين التراث والتقدم، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الوطني والعالمي، وبين الفرد والمجتمع، وبين متطلبات سوق العمل ومتطلبات المواطنة. والمواءمة بين هذه الثنائيات تقود إلى تحقيق تنمية متدرجة ومثمرة، وإلى بناء فرد مواطن متمسك بخصوصيته التي تعبر عن هوية متميزة، وهو في الوقت ذاته عالمي في تفاعله مع العالم من حوله في وقت تتلاشى فيه الفواصل بين الدول والشعوب.

... ليس من الواقع في شيء القول بأنَّ الهدفَ من تربية المواطنة هو تقوية ضعف الانتماء للدولة ومؤسساتها، وللمجتمع والأرض، وللماضي والحاضر؛ فلا تقرن التربية من أجل المواطنة بضعف المواطنة فقط، فتربية المواطنة في أبسط معانيها تعد محاولة منهجية مدروسة للانتقال العقلاني والأخلاقي بالمواطن من حالة المواطن بنص القانون، إلى حالة المواطن "المشارك"، و"الملتزم بالقانون والنظام"، و"المؤدي للواجبات"، و"الإيجابي في مجتمع" ليس بشكله النظري، بل وبالممارسة أيضا.

تقوم جميع الشعوب بجهد كبير -لا يمكن تجاهل أهميته- في الحد من تأثيرات قضايا العالم نتيجة تداخلها وتعدد أسبابها وتأثيراتها؛ لذا تتردد اليوم -أكثر من أي وقت مضى- مفاهيم مثل: "المواطنة العالمية"، و"المسؤولية العالمية"، " والمواطن العالمي"؛ وبالتالي فإنَّ الحاجة تبدو ماسة لتربية الأجيال الحالية والمستقبلية على الإحساس بالمسؤولية العالمية، وتعبر اليوم بعض الشعارات عن ذلك التحول؛ مثل شعار "فكر عالميا وأعمل محليا"، فهل من المعقول أن تنكفئ التربية على ذاتها في ظل هذا التحول العالمي؟

... يرى البعضُ أنَّ المواطنة صفة فطرية لا يُمكن أن تربَّى في المدرسة، بينما يرى المختصون في حقل تربية المواطنة أنَّ المواطنة مُمارسة عملية؛ فالحقوق وحدودها، والواجبات وأنواعها، والهوية، والحرية، والعدالة، والمساواة، والعمل المدني، والانتخاب، والترشح، كلها قيم وعمليات تتطلب مرور الفرد بخبرات تعليمية تساعده على إدراك كيفية ممارسة المواطنة بشكل مثمر وفعال.

ويبدو جليًّا أنه ثمَّة جدل حول موضوع التربية من أجل المواطنة يتمحور حول كونها وطنية أم عالمية؟ ممكنة التربية في المدرسة أم لا؟ هل هي مسؤولية النظام التعليمي؟ أو مسؤولية إحدى المواد أو المقررات الدراسية (الدراسات الاجتماعية مثلا)؟ لذا؛ فإنَّ أي محاولة تحليلية لموضوع تربية المواطنة في النظام التربوي لا يُمكن أن تؤدي لفهم واضح ما لم تأخذ في حسبانها ذلك الجدل حول تلك النقاط. كما ينبغي ألا تسعى إلى حسم ذلك الجدل بقدر ما تسعى لاستقراء الواقع التربوي في ضوء تلك النقاط؛ بغيَّة تكوين رؤية واضحة عن التوجهات المنهجية، والممارسات الميدانية في مجال تربية المواطنة.

وعليه؛ فإنه من الضروري أن يحتل مفهوم المواطنة الأساس الذي تبنى عليه البرامج التعليمية لكافة المراحل التعليمية لا سيما التأسيسية؛ ليتربَّى الأجيال على مفاهيم وقيم المواطنة فنبني شعبا واعيا يُكن الولاء للوطن، مُلما بحقوقه وواجباته، مدركا لما يدور حوله من مجريات الحياة. وفي هذا السياق، يُمكن الإشارة إلى دعوة الحكومة الأمريكية أثناء قيامها بمراجعة المنهج القومي عام 1999 لتضمين مفاهيم المواطنة؛ فيكون إلزاميًا للمرحلة الثانوية واختياريًا للمرحلة الابتدائية، وأنَّ كل مرحلة مُلزمة بالتركيز على ثمانية مفاهيم على رأسها مفهوم المواطنة؛ فهذا يعكس اهتمام الدول المتقدمة بالمواطنة نظرا للحاجة الماسة لها.

ولا شك أنَّ رياض الأطفال قادرة على إكساب الأطفال سلوكيات ومفاهيم تعمِّق الانتماء والولاء الوطني لديهم من خلال جعلهم يتفاعلون مع القضايا المحلية والعالمية، بمناهج دراسية متطورة وجديدة وطرق تدريس تفاعلية تجعل الأطفال يعون مفاهيم وأبعاد المواطنة وقيمها، وحقوقهم وواجباتهم من خلال ممارسات وأنشطة مُتعددة كلعب الأدوار وزيارة بعض المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية، ومحاولة حل بعض المشكلات حسب المستوى العمري والعقلي لهم، وممارسة الأسلوب العلمي في التفكير، وتدريبهم على قبول الرأي الآخر، واكتساب روح التسامح. وتعويدهم على الإنتاجية في المجتمع.

ففترة رياض الأطفال هي مرحلة النمو السريع للطفل ذهنيا وجسديا، وفيها توضع الأسس لتكوين الكثير من القيم والاتجاهات التي تساهم بالدور الكبير في بناء شخصية الفرد وتوجيهها للمسار الصحيح، وتشكيل السلوك الذي يظل مع الفرد طيلة سنوات حياته؛ حيث تشهد هذه المرحلة مرحلة التوقد الذهني للفرد لمحاولة اكتشاف العالم من حوله، والاندماج في البيئة التي يعيش فيها ويتكيف معها، وتؤكد معظم الدراسات المعاصرة على أهمية مرحلة رياض الأطفال، وتركز على طرح المفاهيم المتعلقة بالمجتمع وعلاقات الطفل المتبادلة بمن حوله، والتي تعدُّ أحد أهم الأهداف التي تسعى رياض الأطفال لتحقيقها انطلاقا من أهمية النمو الاجتماعي للطفل؛ فهو يبدأ متمركزا حول ذاته ومن ثم يقوم بالتعرف على الآخرين من حوله متفاعلا ومتعاونا معم؛ وبالتالي يتشكل لديه الشعور بالانتماء للجماعة؛ حيث تعمل هذه المفاهيم على إكسابه للحقائق والقيم والتقاليد والعقائد الدينية في المجتمع؛ وبالتالي فإنَّ الهدف الأساسي لرياض الأطفال هو إعداد المواطن الصالح؛ من خلال تنمية مفاهيم المواطنة لتنشئته عليها منذ الصغر وبما يتناسب مع نموه العقلي والانفعالي؛ لتتم تنشئته تنشئة سياسية واجتماعية يحقق من خلالها الصالح له ولوطنه.

ومن هنا؛ فاهتمامنا بالتنشئة على المواطنة الصالحة على الصعيد الشخصي كأسر. والصعيد الرسمي كدولة من خلال منهجة ذلك في المدارس الرسمية. تعدُّ خُطوة ماسة وضرورية لصناعة الوطن الذي نطمح أن يكون مستقبلا.

zainabalgharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك