طموحات توأد في مهدها

سارة البريكية

نعيش نحن العمانيين منذ دهور مضت على أرض بلادنا التي تعيش اليوم أبهى عصورها وعمرها وأوقاتها، ولدينا فيها وعليها من النعم الكثير، فالحمد لله تعالى على ما أنعم وتفضل، وكانت في قديم الزمان الآفل الذي عاشه أجدادنا وآباؤنا، مستويات المعيشة التي كانت سائدة بينهم آنذاك وأحوال الناس عامة متفاوتة، والأوضاع رغم اختلافها لم تكن تتميز بالأفضلية لدى كثيرين، فإلى حد ومستوى ما، لم تكن تشكل فارقًا كبيرًا بينهم، ما يعني أنّ الأحوال في معظم البيوت والأسر كانت متقاربة ومتشابهة إلى حد ما، وإن لم يكن في كل شيء، ومع ذلك كانوا يحفزون بعضهم بعضا، ويأخذون بأيدي بعضهم، بعكس ما نعيشه اليوم.

وفي ظل تعاقب الليل والنهار على الحياة العمانية، فقد عاشت الأسر في ذلك الوقت متوحدة وقريبة من بعضها رغم الفقر والمرض والجهل، هذا الثالوث المدمر الذي كان يجثم ويطغى على مظاهر تلك الحياة البسيطة عامة، فمرة كانت حلوة، ومرة بائسة قاسية مؤلمة حد الموت، ورغم بساطة كل شيء وانعدام مستويات كثيرة، لم يكن هناك شيء يشغل الناس عن زيارة ومساعدة بعضهم والتداخل فيما بينهم كما يحدث اليوم، حيث لم تعد الأشياء التي كانت سائدة آنذاك تتواجد بيننا اليوم، ولم تعد القلوب والنفوس النقية هي نفسها التي تعيش حولنا اليوم، فليس اليوم أشبه بالبارحة، وليس كل شيء على ما يرام.. فنسال الله السلامة والعافية.

نتفق بأن هنالك أشياء كثيرة اشتغل الناس بها وأصبحت مبعدة لكل ما هو جميل، وأذهبت كل ما هو حسن ونبيل، وكان الناس في ذلك الوقت كما روى لنا الأجداد والآباء متحابين وقريبين من بعضهم بعكس ما هو موجود ومعاش في راهن أيامنا هذه، نعم كانوا متشبثين بعادات وتقاليد قيّمة ومثالية حتى النخاع؛ لأنهم كانوا يرونها الأنفع والأصلح لدوام كل شيء جميل؛ وهي فعلا كذلك.

وكان متعارف لديهم بالفطرة أنّه من ظلم الإنسان لنفسه ومجتمعه، ألا يكون هناك تواصل وتراحم، فآمنوا بذلك وبوحدة الأخوّة وحقوق الجيرة وحب الخير لبني جلدتهم وفيما بينهم أيّما إيمان، وحرص كبيرهم وصغيرهم على ترجمة ذلك في إطار من الإنسانية والعطف والشفقة وعدم التكبر والإيثار وتقديم العون والمساعدة للجميع، وأن تكون العلاقات فيما بينهم منطلقة الحديث الشريف "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" وأن تكون حياتهم ومجتمعاتهم تسودها الألفة والمحبة، ويغمرها شعور مفاده أهميّة التكافل والتعاضد، والحرص على مصلحة كل منهم كحرصهم على مصالحهم الشخصيّة.

ولهذا فإنّ تلك العوامل التي كانت منتشرة في مجتمعاتنا قديما جعلت المجتمع العماني قوي الروابط، متين الأساس والصلاح، وتجد كبارنا عندما يذكرون تلك الأيام يتحسرون على ذهابها واندثار تلك المثل وفضيلة الإيثار، وغياب الكثير من القيم والصفات والأخلاق والآداب والمعاملات والمعاشرات، التي نادى بها ديننا الإسلامي الحنيف.

إنّ بلادنا ومنذ فجر النهضة المباركة قطعت شوطًا كبيرًا في مضمار التسلح بالعلم، ممثلا ذلك في أبنائها الذين ينهلون من العلوم والمعارف من خلال الدراسة والتحصيل والجامعات والكليّات المنتشرة في طول البلاد وعرضها، ويومًا بعد آخر تشهد بلادنا قيام العديد من المشاريع المهمة، يتوازى ذلك مع رغبة الكثير من الشباب والشابات في تقديم وإظهار إبداعاتهم ومواهبهم وابتكاراتهم للعلن، من خلال المجالات المتاحة التي تتناسب معها، فأصبحت عمان دولة عصرية بكل المقاييس، وغدا أهلها ينشدون التطور في كل الميادين، مؤمنين أنّ الحياة رسالة وأهداف يجب أن تتحقق بإذن الله.

أنّه من المسلم به أن الوطن ملك للجميع، ولا ينحاز أحد منا بملكية الوطن لنفسه، فعلى كل واحد منا أن يقوم بدوره في المجال الذي وجد فيه ويستطيعه، وكل منا مطالب بأن يؤدي دوره بصدق وإخلاص وتجرّد من الذات، وبأمانة وتفان وحب لهذا الوطن ولقائده المفدى، مولانا جلالة السلطان قابوس يحفظه الله ويرعاه، وليعلم هذا الذي حظي بالثقة والشفاعة والتقدير، وأصبح مسؤولا وصاحب قرار أنه كجميع المواطنين لا يختلف عنهم.

فمثلما فتحت له الأبواب عندما كان صغيرًا ووجد حينها الدعم والتشجيع من الجميع، وكان يومها ينظر إليه بأنّه سينفع غيره، ينبغي عليه الآن أن يتذكر كيف كانت بداياته، وأن يتذكّر ضعفه وكيف كان يعامل معاملة لطيفة سار عليها حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن، ويجب عليه الآن بعدما تبوأ المناصب وأصبح في الكرسي ألا يكون سيفا مسلطا على رقاب الناس، وعليه أن يعامل أبناء بلده وغيرهم باحترام وتقدير لمواهبهم وإبداعاتهم وقدراتهم، وألا ينتقص من حقوقهم أو يستهزئ بهم، أو يحملهم فوق ما لا يطيقون.

إنّ الذين اليوم على رأس الأمر والنهي ومن بيدهم القرار كانوا كغيرهم من الناس عندما كانوا في الخطوات الأولى من حياتهم، جهلة وأميين، ولم ولن يكونوا منزّهين عن الخطأ والنقص أبدًا، ومن الأهميّة بمكان أن يتذكّروا أنفسهم عندما كانوا لا يقوون على شيء ولا يفهمون شيئًا، وعندما كانوا يحتاجون لما يحتاجه اليوم أبناء الوطن، من تشجيع ودفع وتعزيز من مستوى الروح المعنوية لديهم.

إنّ فئة من الناس الذين هم اليوم وللأسف الشديد مسؤولون في أماكن وجهات مختلفة ولاعتبارات عديدة؛ ينسفون الجهود التي بذلت في نطاق ما بكلمة جارحة أو بجرة قلم، هذه الفئة لم تكن لديها قدرات خارقة أهّلتها لأن تكون على قمة المناصب، واعتقد أنّه ينبغي عليها أن تتمتع بالتواضع لله ولعباد الله، وألا تصطبغ بالتكبر على الناس أو التباهي عليهم بعلمها أو مناصبها، فهذه الفئة لم تأت المناصب برجاحة عقل فقط "ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا لهلكت من جهلها البهائم" ولكن هو تقدير رب العزة والجلال الذي تفضّل وامتن عليهم.

إنّ تشجيع المواهب وعدم وأد القدرات الفاعلة من أبناء هذا الوطن أمر يحتمه علينا الواجب الوطني، لتمضي المسيرة المظفرة للنهضة المباركة التي يقود زمامها مولانا جلالة السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه-، وهذا مطلب مجتمعي وداخلي يؤيده عاهل البلاد المفدى أعزّه الله.. وتذكر أنّه لو دامت لأحد لما آلت إليك.. وأنّه مات قوم وما ماتت مكارهم، وعاش قوم وهم في الناس أموات.

Sara_albreiki@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك